الثلاثاء، 28 يناير 2014

الواجب والإكراه:

8:58 pm
الواجب
*تقديم: 
يمكن تعريف الواجب فلسفيا بكونه يشير إلى ما يلزم المرء القيام به أو الامتناع عنه، من منطلق الأخلاق، أو العقل، أو القانون. وهو يرتبط بشبكة من المفاهيم كالإرادة والإكراه، والفطري والمكتسب، والفرد والمجتمع، مما يخلق تقابلات تدفع إلى طرح التساؤلات التالية: هل يصدر الواجب عن إرادة حرة أم عن ضرورة؟ هل الوعي الأخلاقي فطري أم مكتسب؟ هل الواجب نابع من ضمير الفرد أم من ضمير المجتمع؟ 
*المحور الأول: الواجب والإكراه:
*إشكال المحور: إذا كان الواجب يتحدد بوصفه ما يتوجب على المرء القيام به، فما علاقته بالإكراه؟ بعبارة أخرى، هل الواجب يصدر عن إرادة فاعلة وحرة، أم هو فعل تحكمه الضرورة والإكراه؟
1/موقف كانط: يرى كانط أن الواجب ليس استجابة لرغبة أو وضع أو هدف معين، وإنما هو تجسيد لقانون العقل، وبذلك فهو أمر قطعي يتميز بالضرورة والكونية. فالعقل حسب كانط يمارس إكراها على الإرادة، وهذا الإكراه هو ما يسمى بالأمر الأخلاقي. ويعتبر كانط أن هناك أمرا قطعيا واحدا يمكن أن تشتق منه كل الأوامر الأخلاقية المشكلة للواجب، ويأخذ هذا الأمر الصيغة التالية: "تصرف فقط وفق القاعدة التي تسمح لك بأن تريد في الآن نفسه من هذه القاعدة، أن تكون قانونا كونيا شاملا". ويميز كانط بين صنفين من الأوامر الأخلاقية:
- الأوامر الأخلاقية الشرطية: وهي الأوامر التي لا تنظر إلى الأفعال في ذاتها، وإنما تضع يعين الاعتبار نتائجها. فالأفعال هنا عبارة عن وسائل لتحقيق بعض الأهداف.
- الأوامر الأخلاقية القطعية أو المطلقة: وهي الأوامر التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها، لا من حيث النتائج المنتظرة منها. فهي ليست مقيدة بأية نتائج أو ميول وهي ذات صبغة كونية شمولية، والإرادة تخضع لها مباشرة.
لكن كانط يلح على ضرورة أن يكون الواجب عبارة عن أوامر أخلاقية قطعية وليس شرطية، بحيث تكون الأفعال الواجب القيام بها غايات لا وسائل.
2/موقف إميل دوركايم: إذا كان دوركايم يتفق مع كانط في كون الواجب الأخلاقي إلزاما، فإنه يختلف معه في تأكيد أنه استجابة لما هو مرغوب فيه. فدوركايم يرى أننا لا نستطيع أن نقوم بعمل ما فقط لأنه مطلوب منا القيام به، أو لأننا مأمورون به، إذ "من المستحيل نفسيا أن نسعى نحو تحقيق هدف نكون فاترين تجاهه ولا يبدو لنا خيّرا وجيدا، ولا يحرك حساسيتنا. هكذا يتعين أن تكون الغاية الأخلاقية التي نسعى إليها مرغوبا فيها بجانب كونها إلزاما أخلاقيا. فالصفة الأولى للفعل الأخلاقي هي الإلزام، لكن صفته الثانية هي كونه محط رغبة". ومن ثم يرى دوركايم أنه يتوجب علينا أن نقبل بقسط من أخلاق اللذة داخل الإلزام الأخلاقي، بحيث نمارس الواجب وفق القاعدة الأخلاقية المطلوبة منا، لكن مع شعور بالرضا والإغراء. فلا وجود لفعل أخلاقي تم القيام به بشكل خالص على أنه واجب، بل من الضروري أن يظهر هذا الفعل على أنه جيد ومستحسن على نحو ما. وينتهي دوركايم إلى القول بأن "الواجب، أي الأمر الأخلاقي الكانطي القطعي، ليس إلا مظهرا من مظاهر الواقع الأخلاقي".
*خلاصة المحور: بناء على ما سبق، يتضح أن إشكال علاقة الواجب الأخلاقي بالإكراه يفضي إلى موقفين متمايزين: موقف يضفي على الواجب الأخلاقي طابع الإلزام والإكراه. وموقف مغاير لا يقتصر على ذلك الطابع بل يضيف إليه طابعا آخر له صلة بالرغبة والمتعة.
*المحور الثاني: الوعي الأخلاقي:
*إشكال المحور: إن الوعي الأخلاقي هو قدرة الذات على إصدار أحكام معيارية على أفعالها وأفعال غيرها، وهو الذي يمكنها من التمييز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والمباح والممنوع. لكن ما أصل هذا الوعي؟ هل هو فطري يولد مع الإنسان، أم أنه ثقافي يكتسبه الإنسان من المجتمع؟ 
1/موقف جون جاك روسو: يرى روسو أن الوعي الأخلاقي معطى غريزي في الإنسان، فهو يقول بهذا المعنى: "يوجد في أعماق النفوس البشرية مبدأ فطري للعدالة والفضيلة، تقوم عليه أحكامنا التي نصدرها على أفعالنا وأفعال الغير، فنصفها بالخيّرة أو الشريرة. وإني أسمي هذا المبدأ باسم الوعي". ويؤكد أن أفعال الوعي ليست أحكاما أو قرارات عقلية، بل هي أحاسيس. فإذا كانت الأفكار تأتينا من العالم الخارجي، فإن الأحاسيس التي نقدر الأفكار بواسطتها، هي أحاسيس توجد بداخلنا، وعن طريقها ندرك التوافق أو عدم التوافق الموجود بيننا وبين الأشياء التي يجب علينا احترامها أو النفور منها. إن الوعي الأخلاقي، إذن، يعتبر بمثابة نور داخلي يرشد الإنسان ويضفي الطابع الخلقي على سلوكاته، بل هو الذي يمنحه منزلة أشرف من منزلة الحيوان. يقول روسو بهذا الصدد: "أيها الوعي، أنت الغريزة المعصومة في تمييزها بين الخير والشر.. أنت أيها الوعي من يعطي امتيازا لطبيعة الإنسان، ويمنح أفعاله خلقا، فبدونك لن أشعر في ذاتي بما يجعلني أسمو فوق مرتبة البهائم". 
2/موقف س.فرويد: على العكس من روسو، يرى فرويد أن الوعي الأخلاقي يجد أصله في الثقافة، لا في الطبيعة، وذلك باعتباره يمثل الوظيفة السيكولوجية للأنا الأعلى. ففرويد يميز في الجهاز النفسي للفرد بين ثلاثة أنظمة هي: الهو الذي يجسد ما هو غريزي حيواني في الإنسان، والأنا الذي يجسد مجال العقل والشعور في الحياة النفسية، ثم الأنا الأعلى الذي يعتبر الممثل النفسي للقيم الأخلاقية والضوابط الاجتماعية، وهو كما يقول فرويد: "هيأة نفسية اكتشفها التحليل النفسي. والضمير الأخلاقي هو الوظيفة التي ننسبها لهذه الهيأة.. وتتمثل هذه الوظيفة في مراقبة أفعال ومقاصد الأنا والحكم عليها، ممارسةً على الأنا عملية رقابة". وتعتبر علاقة الأنا بالهو سبب خضوع الأنا للرقابة من طرف الأنا الأعلى، إذ أن الهو يرغب في إشباع الرغبات الجنسية والعدوانية، والأنا هو المسؤول عن تحقيق هذا الإشباع، مادام متحكما في وسائل الحركة(الجسم). فإن انساق إلى إشباع رغبات محظورة أو محرمة، عاقبه الأنا الأعلى بالإحساس بالذنب. الأنا الأعلى، إذن، هو الذي يمارس دور الوعي الأخلاقي في الحياة النفسية، لكنه ليس فطريا، فهو يتكون بفعل التربية، من خلال الأوامر والنواهي التي يتلقاها الطفل من الأبوين والمربين: إنه يعكس قيم الجماعة، ويمثل استيعابا لمُباحاتها ومحرماتها.
*خلاصة المحور: استنادا إلى ما سلف، يمكن القول إن مساءلة مصدر الوعي الأخلاقي تفضي بنا إلى موقفين متناقضين: أحدهما يرد الوعي الأخلاقي إلى الغريزة، والآخر يرده إلى التربية. 
* المحور الثالث: الواجب والمجتمع:
إشكال المحور: إذا كانت الأخلاق تقوم على مبدأ الواجب، فهل هذا الواجب نابع من ضمير الفرد أم من ضمير المجتمع؟
1/موقف إميل دوركايم: يرى دوركايم أن الواجب الأخلاقي نابع من ضمير المجتمع. فبما أن الفرد عضو في مجتمع معين، فإنه يتلقى تنشئة اجتماعية تكسبه مجموعة من القيم والعادات بحيث: "إن المجتمع هو الذي بث فينا، حين عمل على تكويننا خلقيا، تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة، أو تثور علينا بمثل هذه القوة عندما نأبى أن نمتثل لأوامرها. فضميرنا الأخلاق لم ينتج إلا عن المجتمع، ولا يعبر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا فإنما يردد صوت المجتمع فينا". يتمتع المجتمع، إذن، بسلطة كبيرة على الأفراد الذين ينتمون إليه، إلى حد أنه يخلق داخل كل فرد صوتا أخلاقيا يوجه أفعاله ويحكم سلوكاته. يقول دوركايم معززا هذا المعنى: "في كل مرة نتدبر فيها لنعلم كيف يجب علينا أن نسلك، نجد صوتا يتكلم فينا ويُهيب بنا قائلا: هذا هو واجبك. وعندما نتخاذل عن أداء ذلك الواجب الذي بُيّن لنا على هذا النحو، يعلو ذلك الصوت ذاته محتجا على فعلنا".
2/موقف هنري برغسون: يتفق برغسون مع دوركايم في كون المجتمع هو الذي يحدد للأفراد واجباتهم، لكنه يختلف عنه في ربط الواجبات أيضا بالإنسانية أو المجتمع الإنساني. فهو يميز بين صنفين من الواجبات:
- واجبات صادرة عن المجتمع الذي نشأنا فيه، وهي تتسم بطابعها المحلي الضيق، كما هو الحال، مثلا، في الواجبات التي يمليها المجتمع الفرنسي على الفرنسيين. ويتعلق هذا الصنف من الواجب بتفاصيل الحياة اليومية، إذ يستجيب الفرد، دون وعي، لأوامر المجتمع خلال كل أنشطة حياته. فهو يتصور أن تصرفاته تنطلق من إرادته الحرة، وتعبر عن اختياراته الواعية، إلا أنه في حقيقة الأمر ينفذ على نحو آلي واجبات اجتماعية محددة.
*واجبات يمليها انتماء الشخص إلى المجتمع الإنساني ككل، وهي تشير إلى الالتزامات المفروضة علينا تجاه الإنسان كإنسان، مثل احترام حياة الآخرين وحريتهم ومعتقداتهم وحقهم في التملك. وفي هذه الحالة، فالواجب يتخذ طابعا كونيا إنسانيا يتجاوز الحدود المحلية الضيقة.
يمكن القول، إذن، إن بعض الواجبات نابعة من ضمير المجتمع المحلي، وبعضها الآخر نابع من ضمير المجتمع الكوني.
*خلاصة المحور: في ضوء ما تقدم، يتبين أن التساؤل عن مصدر الواجب الأخلاقي، يقودنا إلى اعتبار المجتمع مصدرا للواجب الأخلاقي، لكن إذا كان الموقف الأول يتحدث عن المجتمع بمعناه المحلي الضيق، فإن الموقف الثاني يستحضر المجتمع بمعناه الواسع الكوني. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق