الثلاثاء، 28 يناير 2014

المجزوءة الثانية: المعرفة

11:35 pm
المجزوءة الثانية: المعرفة

تقديم:
يتقاسم الوجود البشري نشاطان متكاملان، نشاط عقلي يفضي إلى إنتاج أفكار قد تكون لها قيمة معرفية. و نشاط عملي يرتبط بالتأثير في الواقع، سواء منه الموضوعي أو الذاتي. و تكمن أهمية النشاط العقلي في كونه ينتهي على مستوى الغاية على الأقل إلى فهم الواقع و إعطائه معنى و معقولية. فالرهان الأساسي لكل معرفة هو الحقيقة. و من ثم أهمية و سائل بلوغ هذه الحقيقة و تحديد منطلقات كل تفكير يهدف إلى معرفة صادقة. هذا الرهان أدى إلى تنظيم حقل المعرفة وفق موضوعات و مناهج. كما انتهى إلى تدقيق مفهوم الحقيقة نفسه و ربطه بالآليات الذهنية و الاختبارات التي لا تدخل في تحديده.
المجال الإشكالي:
إن السؤال الجوهري المرتبط بالمعرفة الإنسانية هو كيف نعرف؟ 
و قد حاولت الفلسفة و خصوصا فلسفة العلم "الإبستيمولوجية" صياغة قضايا المعرفة من خلال الوقوف على الشروط التي تقوم عليها. فما هي شروط إنتاج المعرفة؟
لقد كان العلم إنتاجا حقيقيا لمعرفة بالظواهر الطبيعية، بالاحتكام ثارة إلى التصورات العقلية الخالصة( النظرية) و ثارة أخرى إلى معطيات الواقع الحسي (التجربة). فما علاقة النظرية بالتجربة؟ و هل يمكن انفصال النظرية عن التجربة؟ هل يمكن الحديث عن معايير علمية خارج التجربة الحاسمة؟
هل معايير الحقيقة كونية شاملة أم خاصة نسبية؟
من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ 

النظرية و التجريب

تقديم.
ترتبط النظرية من جهة بالممارسة كمقابل لها، و من جهة أخرى ترتبط بالمجال العلمي المتخصص. و هي في كلتا الحالتين تأخذ معنى نتاج معرفي تركيبي، تفسيري توقعي موجه للممارسة أو للتطبيقات العملية الإنتاجية و السلوكية.إن الإشكال الذي تطرحه النظرية في علاقتها بالممارسة العملية و بالواقع، يتمثل في التساؤل الإبستيمي حول نوع هذه العلاقة ذاتها، هل هي علاقة تبعية أم علاقة استقلال؟ و إذا كانت النظرية تنشأ بعيدا عن الممارسة العملية النفعية و عن الواقع، فكيف تكون موجهة للممارسة و للتأثير في الواقع؟ بعبارة أخرى ما علاقة النظرية بالتجربة و بالعقل؟ و ما هي وظائفها و قيمتها الإبستيمولوجية؟ و هل النظرية مطلقة و ثابتة أم نسبية و متغيرة؟ كيف نستطيع أن نحدد المعايير التي ينبني عليها صدق و صلاحية النظريات العلمية؟


I- التجربة و التجريب. 
إشكال المحور: ما الفرق بين التجربة و التجريب؟
ما هي المراحل التي يقوم عليها المنهج التجريبي؟
ما قيمة التجربة في بناء المعرفة العلمية؟

1)أطروحة ألكسندر كويري.
حاول كويري التمييز بين التجربة و التجريب، و ذلك بالوقوف عند دلالات المفهومين. فإذا كانت التجربة لحظة من لحظات المنهج التجريبي، فإنها عندما ينظر إليها كتجربة تلقائية (خام) و كملاحظة عامية، تصبح بمثابة العائق الإبستيمولوجي. بينما التجريب يشكل حسب كويري المساءلة المنهجية للطبيعة، و التي تقوم على اختبار جهاز مفاهيمي خاص و لغة خاصة. ناهيك عن استعمال اللغة الرياضية، كلغة رمزية صورية و مجردة.

2)أطروحة كلود برنار.
لقد تمت صياغة خطوات و شروط المنهج التجريبي، عبر محاولات بدأـ مع لوائح فرانسيس بيكون (ق17)، مرورا بقواعد الاستقراء عند جون ستيوارت ميل (ق19)، قبل أن تتخذ الصيغة النهائية مع كلود برنار الذي يلخص مراحل هذا المنهج في عبارته التالية: "الحادث يوحي بالفكرة، و الفكرة تقود إلى التجربة و توجهها، و التجربة تحكم بدورها على الفكرة". يتضح من خلال القولة أن كلود برنار يعتبر الملاحظة أول خطوة يتعرف من خلالها العالم على الظاهرة، للإحاطة بمكوناتها. وقد تتم بالعين المجردة أو بالأجهزة التقنية. و يلي ذلك صياغة الفرضية لتفسير الظاهرة تمهيدا لعملية التجريب التي تتحدد وظيفتها في التأكد من صحة الفرضية. و غالبا ما يكون التجريب مخبريا، حيث تتم إعادة إحداث الظاهرة، حتى يتمكن العالم من توجيه التجربة بهدف استخلاص القانون العلمي الذي يفسرها. و من هنا سيؤكد برنار على الأهمية البالغة للتجريب العلمي في إنتاج المعرفة العلمية. حيث يغدو التحقق التجريبي (العيني) للنظرية شرطا ضروريا لعلميتها.

3)أطروحة رونيه طوم.
يِؤكد رونيه طوم على أن التجريب (المتحقق) وحده ليس كفيلا بإنتاج المعرفة العلمية- عكس ما ذهب إليه كلود برنار – و أن العقل يضطلع بدور هام ، كما يتجلى ذلك في صياغة الفروض العلمية. فالتجربة العلمية الخيالية تسفر عن نتائج علمية لا تقل مصداقية عن الحقائق التجريبية. و هو ما يتجلى بوضوح في انتقال العلم إلى دراسة الظواهر الميكروسكوبية، مع الفيزياء المعاصرة. الشيء الذي أبان عن محدودية التجريب في مقاربة حركة و سرعة مكونات الذرة. و كشف رونيه طوم بالتالي عن أهمية العقل الرياضي و التجربة الذهنية في إغناء المعرفة العلمية، و توسيع آفاقها. لذلك فهو يؤكد على ضرورة الجمع بين الواقعي و الخيالي في النظر إلى المنهج العلمي. لأن التجريب لا ينفصل التفكير، و التجربة الذهنية لا تقل أهمية عن التجربة الملموسة، بل إنها تضفي غنى أكبر على الواقع المدروس. 

II- العقلانية العلمية.
إشكال المحور: ما هو الأساس الذي تقوم عليه العقلانية العلمية؟
هل تقوم على ما هو نسبي احتمالي أم على ما هو مطلق يقيني؟

1)أطروحة بيير فرنان.
يقدم الكاتب و المؤرخ الفرنسي جون بيير فرنان منظورا نقديا للعقل، و دوره في تأسيس العقلانية العلمية، و من ثمة النظريات العلمية. إن العقل ليس شيئا خارج التاريخ بل إنه من صميمه.فالعقل حسب فرنان هو بمثابة أنماط محددة من التفكير، تقنيات ذهنية و أشكال متباينة من الاستدلال و البرهان و التفنيد، آليات للبحث و الإيجاد، و تحقيق التمحيص التجريبي... هذه التقنيات تتغير من مرحلة إلى أخرى، و من حقل معرفي إلى آخر.فهذه المعطيات تمثل دليلا على الصيرورة التاريخية للعقل، و هي صيرورة تثبت أنه أساس النظرية العلمية.
و يقسم جون بيير فرنان العقلانية العلمية إلى نمطين، أي إلى عقلانية كلاسيكية تنظر إلى العقل باعتباره مطلقا و ثابتا، و عقلانية معاصرة تعتبر العقل نسبيا و متغيرا ، يقوم بآليات النقاش و البحث عن التناقض.

2)أطروحة محمد أركون.
يبرز المفكر الفرنسي ذي الأصل الجزائري "محمد أركون" التحول الباهر الذي عرفه تاريخ الفكر البشري عموما و الفكر الأوروبي خصوصا. و تحول أسسه ديكارت و اسبينوزا اللذان أبرزا الاستقلالية الذاتية للعقل البشري، حيث تخلص العقل من سجن الجهاز الكهنوتي. و عليه انتقلت أوروبا من مرحلة العقل اللاهوتي القروسطي إلى مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي، من عقل يعتمد على اليقينيات المطلقة إلى عقل نسبي و نقدي يصحح مساره باستمرار و يؤسس للمعرفة العلمية، و يؤمن بإمكانية التقدم الإنساني.

3)أطروحة أولمو. 
يقر الإبستيمولوجي و عالم الفيزياء الفرنسي أولمو أن القرن الثامن عشر شهد حلول العقلانية النقدية الكانطية محل العقلانية الديكارتية. فإذا كانت عقلانية ديكارت الذاتية و عقلانية كانط النقدية تشتركان في وجود مضمون للعقل، تمثله البديهيات العقلية عند ديكارت (ما يظهر للعقل واضحا و يقينيا)، و مقولات العقل عند كانط (الكم-الكيف-المكان-الزمان...) فإن العقلانية المعاصرة لا تعترف بالعقل كمجموعة من المبادئ (المضمون)، ترى فيه "القدرة على القيام بعمليات تبعا لقواعد... إنه أساسا نشاط و فعالية".

III- معايير علمية النظريات العلمية.
إشكال المحور: ما هي معايير صدق و صلاحية النظريات العلمية؟
هل تكمن في التحقق التجريبي أم في الاستدلال العقلي و الانسجام المنطقي؟

1)أطروحة اينشتاين. 
يعتبر اينشتاين العالم الفيزيائي أن التجربة تشكل جوهر النظريات العلمية الكلاسيكية، بل هي معيار صلاحيتها. حيث أن معطيات النظرية و علاقاتها المتبادلة يجب أن تكون مطابقة تماما لنتائج التجربة. ذلك أن بنية النظريات الكلاسيكية تعتمد على مفاهيم و قوانين تشكل نسقا لا يمكن تبريره إلا بوجود تطابق بين النظرية و التجربة. لكن في النظرية المعاصرة لم يعد الأساس الأكسيومي يعتمد على التجربة (مثال الفيزياء النظرية) بقدر ما يعتمد على الاستنباط المنطقي السليم. و هذا المبدأ الخلاق يوجد في الرياضيات. إذن، و إن كانت التجربة تبقى معيار المنفعة بالنسبة للفيزياء، فإن الرياضيات في استنباطاتها العقلية هي التي تفسر إبداعية و تجديد النظرية العلمية.


2)أطروحة دوهيم.
يعتبر بيير دوهيم العالم الكيميائي و الإبستيمولوجي الفرنسي أن اعتبار النظرية الفيزيائية كتفسير افتراضي للواقع المادي، يترتب عنه جعل النظرية تابعة للميتافيزيقا. حيث يؤكد دوهيم على أن النظرية الفيزيائية ليست تفسيرا، إنها نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ، و غايتها أن تمثل بما أمكن من البساطة و الوضوح مجموعة من القوانين التجريبية. و هذا يعني أن العناصر التي تتشكل منها النظرية يتم الربط فيما بينها حسب قواعد التحليل الرياضي. و يعتبر دوهيم، أحد رواد الوضعية المنطقية، أن الاتفاق مع التجربة هو المعيار الوحيد لتأكيد حقيقة النظرية الفيزيائية و صلاحيتها. 

3)أطروحة كارل بوبر.
يعتبر العالم و الفيلسوف الإنجليزي "كارل بوبر" أن معيار صدق و صلاحية النظريات العلمية المعاصرة لم يعد التجربة فقط. بل أصبح المعيار هو ما أسماه بمبدأ التزييف. ذلك أن النسق العلمي يمكن من اعتماد تحقق التجربة كمعيار لصدقه و صلاحيته. لكن ما يعطي لهذا النسق قيمة أكثر هو الاعتماد على معيار قابلية التزييف كمعيار للتمييز. و من ثم فإن الطريقة الاختيارية لا تعني إقصاء أنساق نظرية أخرى، لا يمكن دعمها. بل فسح المجال أمام اختيار النسق الأصلح بالمقارنة مع الأنساق الأخرى. (نلاحظ حاليا تعايش فيزياء نيوتن مع الفيزياء المعاصرة، و كذلك تعايش الهندسة الأقليدية مع الهندسات اللاأقليدية). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق