الاثنين، 16 يونيو 2014

الأول: مشروعية الدولة وغاياتها:


*المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها:

*إشكال المحور:

إذا سلمنا بأن الدولة "جمع من الناس يخضعون لنفس التشريع ونفس السلطة السياسية"، فما أساس مشروعية الدولة؟ وما الغايات التي تستهدف الدولة تحقيقها؟ بصيغة أخرى، ما الذي يجعل وجود الدولة مشروعا؟ وما الأهداف التي تتوخى إنجازها؟

*مقاربة الإشكال:


1/موقف جون لوك:

يحدد لوك الدولة بانها جماعة من الناس غايتها الحفاظ على الخيرات المدنية وتنميتها. ويقصد بالخيرات المدنية الحياة والحرية وسلامة البدن وامتلاك الخيرات الخارجية(الأرض، النقود، المنقولات...). لذلك يؤكد انه من واجب الحاكم المدني ان يعمل على تأمين المحافظة على هذه الخيرات لصالح أفراد الشعب، بناء على قوانين يخضع لها الجميع بالتساوي. ومن ثم يكون من الضروري ممارسة القمع على كل من ينتهك قوانين الحياة المدنية، وذلك عن طريق تخويفه من العقاب المتمثل في حرمانه من كل أو بعض الخيرات. يقول لوك: "إن الحاكم المدني مسلح بقوة مكونة من القوة المجتمعية لكل الأفراد، من اجل معاقبة من ينتهكون حق الغير". وهذا يعني أن الحاكم المدني مفوض من طرف جميع مواطني الدولة لحماية أمنهم وممتلكاتهم، وزجر كل من تسول له نفسه المس بسلامة حياتهم.
وعل ضوء هذا التصور يظهر أن لوك يقيم مشروعية الدولة على أساس التعاقد، أي اتفاق الناس على تكوين جماعة واحدة تمثل هيئة واحدة، وهذه الهيئة تلتزم بقرار القوة الغالبة أو موافقة الأكثرية، وتتوخى حماية الخيرات لمدني وتنميتها.

2/موقف اسبينوزا:

بموازاة مع موقف جون لوك، ينفي اسبينوزا أن تكون غاية الدولة إرهاب الناس والتسلط عليهم أو إخضاعهم للآخرين. فهو يؤكد أن غاية الدولة تتمثل في تحرير الفرد من الخوف ليعيش في أمان، بحيث يستطيع التمتع بحقه الطبيعي في الحياة والعمل دون إلحاق الضرر بالغير.إذ أن الدولة تتوخى إتاحة الفرصة للأفراد كي تنجز أجسادهم وظائفها في أمان تام، فيكون بمستطاعهم أن يستعملوا عقولهم بحرية، مع ضرورة التخلي عن القيم السلبية كالحقد والخداع والظلم. وبهذا تكون الغاية الحقيقية للدولة هي ضمان الحرية، لا الحرية المنفلتة من كل قيد، وإنما الحرية المحكومة بمبادئ العقل. فإذا تُرك الناس أحرارا ليسلك كل واحد كما يشاء، فإن مصالحهم ستتصادم وينشب بينهم الصراع، ما دامت أحكامهم مختلفة متضاربة. لذلك فإن تأسيس الدولة يقتضي أن يتنازل الفرد لمن يحكم عن حقه في أن يسلك كما يشاء، وليس عن حقه في التفكير والحكم. فله أن يفكر ويصدر الأحكام بحرية تامة إذا اعتمد على العقل، لا الخداع أو الغضب أو الحقد أو الإخلال بالنظام. ويشكل هذا التنازل شرط السلام إلى حد أن اسبينوزا اعتبر أن الفرد الذي يتصرف كما يشاء دون مراعاة لقوانين الدولة، يعد مصدر ضرر بالنسبة للسلطة العليا، على حين أن المواطن الصالح هو من لا يعارض قوانين الدولة اعتمادا على العنف، وإنما على العقل.

*خلاصة المحور:

بناء عل ما سبق، يمكن القول إن الدولة تستمد مشروعيتها من التعاقد بين الأفراد، وهي تتوخى تحقيق الأمن والاستقرار والحفاظ على حياة الإنسان وحريته.

    الحق والعدالة

    الحق والعدالة


    *تقديم: 
    يحدد لالاند الحق على أساس أنه"ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، يعني ما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي"، على حين أنه يحدد العدالة بكونها تشير إلى "سمة ما هو عدل وعادل، وصفة من يكون عادلا، وكل فعل أو قرار يستعمل لفرض العدالة، والسلطة القضائية".
    ويطرح مفهوما الحق والعدالة إشكالية فلسفية تترجمها التساؤلات التالية: هل يقوم الحق على الطبيعة أم على الثقافة؟ كيف يمكن للحق أن يتحقق على أرض الواقع عل نحو عادل؟ هل العدالة مساواة أم إنصاف؟
    *المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي:
    *إشكال المحور: ينتمي الإنسان من ناحية إلى الطبيعة بوصفه عضوية ذات حاجيات وغرائز، وينتمي من ناحية أخرى إلى الثقافة بوصفه ذاتا عاقلة تتعايش مع الآخرين، وتخضع لقوانين عامة. وبالنظر إلى هذا الانتماء يمكن التساؤل عن الأساس الذي يقوم عليه الحق: هل يتأسس على ما هو طبيعي في الإنسان كالشهوة والقوة؟ أم يتأسس على ما هو ثقافي كالعقل والنزوع إلى التعايش مع الآخرين؟
    1/موقف توماس هوبز: يرجع الفيلسوف الإنجليزي هوبز أساس الحق إلى الطبيعة، فيتحدث عن حق طبيعي مارسه الإنسان في حالة الطبيعة حيث عاش بدون دولة ولا نظام اجتماعي. ويعرف هوبز الحق الطبيعي بأنه "الحرية الممنوحة لكل إنسان لاستخدام قواه الخاصة من أجل المحافظة على طبيعته الخاصة أو على حياته الخاصة، وبالتالي حريته في أن يفعل أي شيء يبدو له حسب تفكيره وعقله الخاص أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض". واستنادا إلى هذا التعريف استخلص هوبز أربعة حقوق طبيعية للإنسان هي: حق البقاء، حق استخدام كافة الوسائل المؤمنة للبقاء، حق تقرير أنواع الوسائل الضرورية للحفاظ على الحياة وتقدير حجم الخطر، ثم حق وضع اليد على كل ما تصل إليه.
    إلا أن الحق الطبيعي يجعل الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، ويحوّل وجود الناس إلى حرب الكل ضد الكل. فما دام الأفراد يعيشون في حالة الطبيعة بلا قيود ولا ضوابط، وما دام الحق الطبيعي يعني حرية كل فرد في فعل ما يستجيب لطبيعته الخاصة، فإن ذلك يفضي إلى تضارب مصالح الأفراد وسيادة الصراع بينهم. ومن ثم فإن حالة الطبيعة شكلت تهديدا لحياة الإنسان، مما دعا إلى ضرورة تنازل الناس عن حقوقهم الطبيعية لشخص واحد يسمى الأمير، وهو حاكم مطلق يتولى مهمة حماية مصالح الناس والدفاع عنها تبعا لما يراه مناسبا وناجعا.
    2/موقف جون جاك روسو:
    إذا كان هوبز يؤسس الحق على ما هو طبيعي، فإن الفيلسوف الفرنسي روسو يحدد الحق على أساس مزدوج يتضافر فيه الطبيعي والثقافي. ذلك أنه ينظر إلى الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا اجتماعيا، فهو محكوم من جهة بغرائز الطبيعة، لكنه يتميز من جهة أخرى بميولات اجتماعية تدفعه إلى التعايش مع الآخرين، والانخراط في علاقات تنظمها القوانين المشروعة. ومن هذا المنظور انتقد روسو حق القوة، أي الحق القائم على القوة، لأنه حق زائف، ما دامت القوة قدرة فيزيائية مجردة من كل مبدأ أخلاقي، فهي تلغي حرية الأفراد في اختيار من يمثل إرادتهم، وتفرض عليهم الامتثال لصاحبها بحكم الضرورة والإجبار، فلا تكون طاعتهم مقترنة بالواجب، بقدر ما تكون نتاجا للخوف والحذر. ويترتب عن ذلك عجز حق القوة عن تحقيق الدوام والاستقرار، فهو يزول بزوال القوة التي أسسته. وفي مقابل الحق الطبيعي، يقدم جون جاك روسو "الحق المدني" باعتباره حقا يتأسس على فكرة العقد الاجتماعي. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل هو في حاجة إلى الاجتماع مع غيره من البشر، ومادامت إرادات الناس تتسم بالاختلاف والتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم إلا إذا قام على تعاقد فيما بينهم، يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن جميع حقوقه للإرادة العامة التي تمثلها الدولة باعتبارها شخصا معنويا ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم. وبذلك تتحول الحقوق الطبيعية للإنسان إلى حقوق مدنية وتبقى الحرية والمساواة هي جوهر هذه الحقوق.
    *خلاصة المحور:
    انطلاقا مما تقدم نخلص إلى أن مساءلة أساس الحق تضعنا أمام موقفين مختلفين: أحدهما يرجع أساس الحق إلى ما هو طبيعي، والآخر يرجعه إلى ما هو طبيعي ثقافي.
    *المحور الثاني: العدالة كأساس للحق:
    *إشكال المحور: إن اعتبار العدالة أساسا للحق يدفعنا إلى إثارة التساؤل التالي: كيف يكون الحق عادلا؟ هل تتحقق عدالة الحق بارتباطه بسلطة القانون ومؤسساته، أم بارتباطه بسلطة العقل والأخلاق؟
    1*مقاربة الإشكال:
    /موقف آلان: يعتبر الفيلسوف الفرنسي المعاصر آلان أن الحق لا يكون حقا بالفعل إلا إذا تم الاعتراف به من طرف السلطة القائمة. فعدالة الحق ترتبط بضرورة التصريح به وإعلانه حتى تكون له قيمة حقة، ولا يمكن التصريح بالحق إلا إذا وافقت عليه سلطة حكم وأعلنته على رؤوس الملأ. أما إذا لم يُعترف بالحق " فإنه لا وجود البتة إلا للوضع الذي يفرضه الواقع، وهو وضع يبقى الحق إزاءه معلقا". وتوضيحا لهذه الفكرة يضيف آلان مستثمرا المثال: "إن حيازة ساعة ووجودها في الجيب ومعرفة الوقت بها ليست سوى أمور من قبيل الأمر الواقع، أما الحق في امتلاك الساعة فأمر مختلف تماما. إذ ان المطالبة بهذا الحق تعني الالتجاء إلى الحكم عبر مقاضاة يشهدها العموم، وتعني المرافعة ومحاولة الإقناع". يظهر، إذن، أن آلان يميز بين الحق والأمر الواقع: الأول يتعلق بكل أمر نحوزه أو نتصرف فيه طبقا لاعتراف السلطات الحاكمة، والثاني يتعلق بكل أمر نفرضه بالقوة دون التوفر على هذا الاعتراف. هكذا تبقى عدالة الحق مشروطة بالقانون ومؤسساته.
    2/موقف شيشرون: في مقابل آلان، يعيد المشرّع الروماني شيشرون النظر في علاقة الحق بالسلطة ممثلة في القوانين والمؤسسات، فهو يعتقد أنه "لا يوجد عبث أكبر من الاعتقاد بأن كل ما هو منظم بواسطة المؤسسات أو قوانين الشعوب عادل". فلو افترضنا أن طاغية فرض على شعب مجموعة من القوانين، فإنه من غير المعقول اعتبار هذه القوانين عادلة. إن الحق الوحيد، بالتالي، هو ذلك الذي يؤسسه قانون واحد يشرع تبعا لمقتضيات العقل القويم ما يلزم أو يُمنع فعله، وهذا القانون سواء كان مكتوبا أم غير مكتوب فإنه يسري على كل فرد، ومن يجهله يعتبر ظالما.
    وفي ضوء هذا التصور لن تتأسس العدالة على المنفعة، وإنما على الطبيعة(العقل)، لأن المنفعة تتغير من شخص لآخر، بحيث ان كل فرد تعارضت مصلحته مع القوانين سيعمل على انتهاك هذه القوانين، بينما لو تم الاعتماد على مقتضيات العقل في تحديد ما هو حق فإن العدالة ستسود بين الناس. يقول شيشرون بهذا الصدد " فلكي نميز قانونا حسنا عن آخر قبيح، لا نتوفر على قاعدة غير الطبيعة[العقل]. والطبيعة لا تمكننا فقط من التمييز بين الحق والظلم، وإنما تمكننا كذلك من التمييز بين الأشياء الحسنة والأشياء القبيحة من الناحية الأخلاقية بصفة عامة".
    *خلاصة المحور:
    يتبين مما سبق أن التساؤل عن العدالة كأساس للحق يسمح بالتمييز بين موقفين متعارضين: الأول يربط عدالة الحق بالسلطة (القانون والمؤسسات)، والثاني يربطها بالطبيعة(العقل).
    *المحور الثالث: العدالة بين الإنصاف والمساواة:
    *إشكال المحور: هل العدالة إنصاف أم مساواة؟ هل يجب على العدالة أن تساوي بين الناس، أم تعطي لكل ذي حق حقه؟
    *مقاربة الإشكال:
    1/ موقف ج.راولز: يعتبر الفيلسوف الأمريكي المعاصر راولز أن نظرية العدالة كإنصاف تنطلق من فكرة وجوب النظر إلى المجتمع كنظام للتعاون المنصف. ومعنى ذلك أن المجتمع نسيج يتكون من مواطنين يتمتعون بالحرية والندّية، ويتميزون بحب العدالة والخير، ويسعون، في ظل تعاون مثمر بينهم، إلى تحقيق الغايات التي ينشدونها. وفي هذا الإطار، يقتضي تحقيق العدالة كإنصاف في المجتمع مراعاة مبدأين أساسيين:
    - المبدأ الأول يتمثل في المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات الأساسية. فمن حق كل الأفراد أن يستفيدوا بالتساوي من نفس الحقوق، كما عليهم أن يخضعوا لنفس الواجبات.
    - المبدأ الثاني: يتمثل في اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثروة والسلطة. ويعني هذا المبدأ عدم وضع عوائق أمام أولئك الذين، بحكم مواهبهم الطبيعية أو ظروفهم، يوجدون في وضع أحسن من غيرهم. لكن هذه اللامساواة لا تكون عادلة إلا إذا تم تعويض أفراد المجتمع الأقل حظا باستفادتهم من تلك الثروة والسلطة.
    2/موقف ماكس شيلر: انسجاما مع مبدأ اللامساواة عند راولز، يرى الفيلسوف الألماني ماكس شيلر أن العدالة المنصفة هي العدالة التي تراعي اختلافات الناس وتمايز طبائعهم وقدراتهم واستعداداتهم. ذلك أن العدالة لا تتنافى مع بروز أشكال مختلفة من التفاوت الفكري والاجتماعي والاقتصادي، فالناس يتفاوتون تفاوتا إيجابيا خلاقا، ومن الظلم الإقرار بتساويهم المطلق. وإذا كان هناك من يدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس، فإنه لا يصدر إلا عن الكراهية والحقد، سواء استند إلى الأمر الواقع أم إلى الضرورة الأخلاقية. إذ "يبدو واضحا أن وراء هذه المساواة المنشودة تتستر دائما الرغبة الوحيدة في خفض الأشخاص المعتبرين أكبر وأعظم من غيرهم، إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل درجات السلم. فما من أحد ينشد المساواة حينما يشعر بأنه يمتلك قوة أو نعمة، تتيح له أن يتفوق في أي مجال كان".
    *خلاصة المحور: تأسيسا على ما تقدم، يظهر أن العدالة لا تكون منصفة إلا إذا ساوت بين الناس على صعيد الحقوق والواجبات، ووضعت بعين الاعتبار اختلافاتهم على الصعيد الفكري والاجتماعي والاقتصادي. 



      الوضع البشري

      مجزوءة الأولى: الوضع البشري.

      تقديم:
      يتسم الوجود البشري بتعقده و صعوبة تحديده، فهو يخضع لشروط ذاتية و موضوعية و تفاعلية. حيث أن مثل هذا التحديد يدل من ناحية على أن الوضع البشري خاضع لشروط تضفي عليه طابع الضرورة و الخضوع (تجعل منه موضوعا أو شيئا كباقي أشياء العالم). و من ناحية أخرى يدل على بعد خاص بالإنسان يتمثل في قدرته على المبادرة و التباعد، و ذلك عن طريق تفاعل حر مع الآخر و مع المحيط (ما يجعل منه ذاتا حرة).
      إذن فالوضع البشري يتميز بالازدواجية . لأن الإنسان يوجد في العالم، يعيش مع الآخرين و يخضع بشكل قبلي (الشرط الموضوعي للوضع البشري) لحتميات طبيعية و بيولوجية... و لإشراطات ثقافية و اجتماعية... و في المقابل نجد أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع التباعد عن وضعه المشروط بسلسلة من الضرورات، و تجاوز محددات وجوده، لكي يختار نمط وجود خاص و متميز. و ذلك لأنه ينفرد بالحرية و الوعي و المسؤولية، و القدرة على التفكير و الدخول في علاقات (واعية) مع الآخر، يرسخ من خلالها القيم التي يحملها في ذاته (الشرط الذاتي للوضع البشري). 
      فالإنسان لا يدرك وجوده إلا بالمشاركة و التعايش داخل مجموعة النوع البشري ، حيث يقبل وجوده النسبي و ينفتح على وجود الآخر. و من هنا يتضح أن الوضع البشري يتحدد من خلال بعدين إثنين:
      • بعد الوجود الذاتي المحدد بالوعي و القدرة على تملك الذات (الأنا)، عن طريق التفكير. و يحيل هذا البعد على مفهوم الشخص.
      • بعد الوجود التفاعلي المحدد من خلال علاقة التأثير المتبادل بين الأنا و الأنا الآخر. و يحيل هذا البعد على مفهوم الغير.

      المفهوم الأول: الشخص.
      تقديم.
      إن الوضع البشري هو ما يحصر و يحدد الذات الإنسانية في مختلف مستويات وجودها ، و هو ما يجعله وضعا متميزا بالإزدواجية من ناحية و بالتناقض من ناحية أخرى. فرغم اختلاف و تعدد الأبعاد المحددة للشخص إلا أنه يظل محافظا على هوية ثابتة و مستقرة. يستمد أساسها إما من فكره أو من إحساسه أو من بعده الروحي أو ربما من قوة إرادته. كما أن هذا الشخص كذات واعية مفكرة، يعتبر قيمة عليا دون باقي الكائنات. قد يستمدها من قدراته العقلية الفكرية أو من عقله العملي الأخلاقي. و يخضع الشخص كذلك كأنا مدرك و مفكر للضرورات البيولوجية و للحتميات الوجودية و كذلك للإشراطات النفسية و التفافية و الاجتماعية... ما يجعله مدركا حدود حريته، و قدرته على التجاوز و الابتعاد.
      بناء على هذه المفارقات التي يتصف بها التناول المفاهيمي للشخص، تطرح مجموعة من الأسئلة الإشكالية كالتالي:
      • كيف تحدد هوية الشخص؟ ما هي الخصوصيات الجوهرية الكفيلة بتحديد مفهوم الشخص؟
      • إذا كان الشخص/الإنسان متميزا عن باقي الكائنات، فمن أين يستمد قيمته و تميزه؟ ما أساس قيمة الشخص؟
      • هل يتميز الشخص بالحرية و القدرة على الاختيار أم أنه محكوم بضرورات بيولوجية/نفسية و أخرى ثقافية/اجتماعية؟

      I- الشخص و الهوية. 
      رغم تعدد و تنوع بل و تعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة و هوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. فالهوية هي خاصية ما هو مماثل و مطابق لذاته و مختلف عن غيره عبر الزمان و اختلاف المكان. 
      إشكال المحور: إذا كان لكل شيء ماهية (هوية / جوهر ) تميزه عن غيره، فهل توجد ماهية تخص الفرد؟ و إذا عرضنا الشخص على محك التاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا مستقرا رغم تغيرات الجسم و أحوال النفس و انفعالاتها؟ ما أساس الهوية الشخصية؟ هل تقوم الهوية على الذات المفكرة أم على الإحساس أم على الإرادة؟ أم على الطبع و الذاكرة؟ أم على الوحدة الدينامية لمكونات الجهاز النفسي؟ 

      1)أطروحة التصور الفلسفي الماهوي.
      ينطلق هذا التصور من اعتبار الهوية معطى فطريا تلقائيا بسيطا، متجذرا في الطبيعة الإنسانية. تستمد أساسها من وجود "أنا" ماهوي جوهري و ثابت, رغما عن تغير الانفعالات و الأفكار و الحالات الشعورية. و في سياق هذه المفاربة الميتافيزيقية للهوية الشخصية، نذكر أفلاطون الذي انطلق من ثنائية: جسد/روح، معتبرا الجسد مكون مادي متغير، في مقابل النفس كمكون جوهري ثابت و أزلي. و النفس هي التي تعبر عن حقيقة ( جوهر ) الوجود الإنساني. في نفس السياق نجد الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت في العصر الحديث، يؤكد على أهمية " الفكر" في بناء و فهم حقيقة الشخص. و دعى في المقابل إلى تجنب الحواس لأنها خادعة و توقع في الخطأ. فالنفس عند ديكارت جوهر قائم بذاته، خاصيته الأساسية " التفكير". و هو ما يشكل الهوية الشخصية للكائن البشري. بل إنها صفته الأكثر يقينية و الأكثر صمودا أمام أقوى عوامل الشك. لذلك فالشخص عند ديكارت هو بمثابة "أنا" مفكر. و الهوية الشخصية تنحصر أساسا في الفكر المجرد، لأنه هو الأمر اليقيني الذي لا يطاله الشك.
      و في مقابل ديكارت نجد الفيلسوف الإنجليزي ذو النزعة التجريبية يعرف الشخص بوصفه كائنا مفكرا عاقلا، يملك القدرة على الرجوع إلى ذاته باستمرار و تعقلها و تأملها في وحدتها و مطابقتها لنفسها، بواسطة الإدراك الحسي. حيث أن الفلسفة التجريبية لا تقر لشيء بصفة الواقعية و الحقيقة ما لم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس. و عليه فالهوية الشخصية ليست سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا. يرى جون لوك أن ما يجعل الشخص "هو هو" عبر أزمنة و أمكنة مختلفة، هو ذلك الوعي الذي يصاحب مختلف أفعاله و حالاته الشعورية من شم و تذوق و سمع و إحساس و إرادة... تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية. مما يعطي لهذا الوعي بالإحساس استمرارية و ديمومة، فتتشكل بذلك "الأنا" كذات مطابقة لذاتها أي لها هوية.
      إذا كان كل من ديكارت و جون لون يعتبر الشخص كائنا عاقلا و مفكرا، تقوم هويته على أساس الفكر المجرد الذي لا يطاله الشك (ديكارت) أو على أساس الوعي المصاحب للإحساس و المستقر في الذاكرة ( لوك)، فإن الفيلسوف الألماني شوبنهاور يربط هوية الشخص بالإرادة. إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى و نتغير كليا. من هنا ينفي شوبنهاور ان تكون هوية الشخص متوقفة على مظاهره الجسمية لأنها خاضعة للتغير. كذلك يرفض ربط الهوية بالذاكرة و الشعور، لأن معطيات الشعور في تغير دائم و أحداث الماضي يعتريها النسيان بفعل تلف الذاكرة بسبب الشيخوخة أو المرض. كما أن الإنسان قد ينقطع في بعض الحالات عن التفكير. فالعنصر الثابت فينا إذن، و الذي يشكل أساس هويتنا و نواة وجودنا، هو الإرادة حسب شوبنهاور هو الإرادة. إنها إرادة الحياة التي تظل ثابتة و تشكل الذات الحقيقية المحركة لوعينا.

      2)أطروحة التصور العلمي (السيكولوجي و السوسيولوجي).
      ضدا على التصور الفلسفي الماهوي، يرفض التصور العلمي القول بوجود "أنا" كجوهر ماهوي ثابت يحيل على هوية الشخص. في هذا السياق و من منظور سيكولوجي، يؤكد جول لاشوليي على أن فرضية "الأنا" الجوهرية تكذبها مجموعة من الحالات الواقعية: النوم، فقدان الذاكرة، إصابات في الدماغ قد تعطل بعض وظائفه... كل هذه الأمثلة تدفع إلى الشك في وجود "أنا" جوهري ثابت. و يدافع لاشوليي على فرضية مخالفة، تستمد أسسها من المجال العلمي، ت}د على أن الشعور بالهوية يتوقف على آليتين نفسيتين يقومان بمهمة السهر على وحدة الشخص، و بالتالي تبات هويته. أولهما "الطبع" أو السمة العامة للشخصية. و يقصد به المزاج الخاص بكل شخص و الذي يجعله يحافظ على نفس ردود الأفعال اتجاه المنبهات الخارجية. و ثانيهما "الذاكرة" و هي قدرة من القدرات العقلية التي تحفظ و تستحضر الأحداث الماضية. إن "الطبع" تغذية للذكريات التي تنقل الماضي إلى الحاضر، فيبقى الطبع مستمرا و الهوية واحدة و ثابتة.
      و من منظور سيكولوجي متمايز، يقدم الطبيب و المحلل النفساني سيغموند فرويد تصورا ديناميا للهوية الشخصية، معتبرا "اللاوعي" الموجه الأساسي "للوعي"، حيث يرى أن "الأنا" لا يعتبر سيدا في عقر داره، لأنه خادم لأسياد ثلاث هم: الأنا الأعلى – الهو – الواقع. إذن فالهوية الشخصية حسب فرويد تقوم على الصراع و التناقض بين مكوناتها و ليس على التطابق. مما يؤدي إلى هدم و تقويض مركزية "الأنا" و تفكيك تطابقه مع ذاته، بجعله للنفسي و البيولوجي من جهة، و خاضعا للثقافي/القيمي و إكراهات الواقع من جهة أخرى.
      و في نفس السياق العلمي نجد الموقف السوسيولوجي يؤكد على أهمية الدور الثقافي/ الاجتماعي في تحديد الهوية الشخصية. و ذلك بالحديث عن " هوية شخصية جماعية" تذوب فيها "الهوية الشخصية الفردية". كما ذهب إلى ذلك رالف لينتون الذي يعتبر أن الهوية الشخصية تتحدد انطلاقا من النظام القيمي و الأخلاقي، و من النموذج الثقافي للمجتمع. 

      3)استخلاص.
      يتضح من خلال محاولتنا مقاربة الإجابة عن السؤال الإشكالي الذي يتعلق بأساس الهوية الشخصية،إن كان الوحدة و التطابق أم التغير و التعدد، أن معالجة الأسئلة الإشكالية تطرح صعوبات كبيرة، نظرا لتضارب الأطروحات و المواقف الصادرة عن الفلسفة و عن العلوم الإنسانية. فبينما تحافظ الفلسفة الماهوية على مقومات"الأنا" كذات واعية و عاقلة، و ترى في الهوية الشخصي وحدة و تطبقا للذات مع ذاتها، نجد أن أطروحة العلوم الإنسانية تجرد الشخص من خصائص "الأنا" و تجعل منه تابعا و خاضعا لشروط و متغيرات نفسية و ثقافية. 
      و على العموم فالشخص يمتلك هوية شخصية تجعل منه ذاتا تعي ذاتها باستمرار داخل وحدة صورية، كما تعي تميزها عن الأغيار، على تضارب و تعدد الأسس و المبادئ التي تقوم عليها هذه الهوية.

      II- الشخص بوصفه قيمة.
      يتحدد الشخص في السياق الفلسفي بكونه ذاتا مفكرة، عاقلة واعية قوامها "الأنا" الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت. و يتحدد في السياق العلمي (العلوم الإنسانية) كبنية نفسية و اجتماعية. و إلى جانب هذين التحديدين نجد تعريفا عمليا للشخص يحمل بعدا أخلاقيا. حيث يحدد الشخص في هذا السياق بكونه الفرد الذي تنسب له مسؤولية أقواله و أفعاله. كما أنه يعتبر قيمة في ذاته، عندما ينظر إليه كذات واعية حرة و مسؤولة، لها كرامة و قيمة. 
      إشكال المحور: فمن أين أين يستمد الشخص قيمته؟ بأي معنى يمكن القول بأن الإنسان يمتلك قيمة؟ كيف تتحدد قيمة الشخص أخلاقيا؟ هل تكمن في كونه غاية في حد ذاته أم في كونه مجرد وسيلة؟ هل تتمثل هذه القيمة في وجوده الفردي المنعزل أم بالمشاركة و التضامن مع الغير؟ هل الشخص قيمة أخلاقية مطلقة أم قيمة قانونية و حقوقية نسبية؟

      1)أطروحة إيمانويل كانط.
      يعمل التصور الكانطي على فحص البعد الأخلاقي في الإنسان. عن طريق تحرير العقل العملي الأخلاقي مقابل إقراره بمحدودية العقل العلمي الخالص. إن البعد الأول يعتبر الشخص بموجبه حرا و ذو كرامة، إذا ما تحققت فيه ثلاث خصوصيات:
      *أن يمارس الشخص الفعل الأخلاقي عن واجب و ليس وفقا للواجب. أي كاقتناع ذاتي و ليس خوفا من العقاب.
      *أن يمارس الشخص الواجب لذاته، أي كفضيلة تسمو بالشخص و بالبشرية جمعاء. لا يمارسه كوسائل لتحقيق المنافع.
      *الواجب الأخلاقي ذو خاصية كونية و معايير الحكم عليه ثابتة عبر الزمان و المكان.
      و بهذه الخصائص يكون للشخص في فلسفة كانط قيمة مطلقة، و يوجد كغاية في ذاته. فالشخص الإنساني ليس شيئا كي نعامله كمجرد وسيلة، و ليس بضاعة تقوم بسعر أو بثمن. بل إنه ذات لعقل عملي أخلاقي، تمتلك قيمة سامية، لا تقدر بسعر، إنها الكرامة الإنسانية التي ينبغي احترامها لذاتها. و يتجلى الاحترام المطلق "عند كانط" للشخص من خلال امتثاله للأوامر الكونية و المطلقة:" تصرف دائما بشكل تعامل بموجبه الإنسانية في شخص غيرك مثلما في شخصك. باعتبارها غاية لا وسيلة" فحينما نعترف للشخص بقيمة و كرامة مطلقتين، فهذا يعني تجاوز كون الشخص ذاتا لها حقوق و عليها واجبات (أي له قيمة حقوقية و قانونية) إلى التأكيد على أنه ذات (غاية مطلقة) تستوجب منا الاحترام و الحماية. 

      2)أطروحة هيجل.
      يرى هيجل أن قيمة الشخص الأخلاقية لا يمكن أن تتحقق إلا داخل الجماعة. فكل شخص ، حسب هيجلن عليه الالتزام بواجباته و القيام بدوره و المهام التي أسندت إليه، انطلاقا من المكانة التي يحتلها داخل الجماعة. فهيجل بتصوره هذا يدعو إلى الانفتاح على الآخرين و على الواقع، من خلال علاقة جدلية أساسها التأثير التأثر. و معيارها يكمن في السلوك الأخلاقي الذي يصدر عن شخص امتثالا للواجب الأخلاقي. فالشخص، إذن، يكتسب قيمته الأخلاقية عندما يعي ذاته و حريته و يصبح مساهما و مشاركا و منخرطا في الروح العامة لشعبه التي تتجلى في حضارته بكل قيمها و فنونها و مؤسساتها. و تجدر الإشارة إلى أن هيجل يقلص من دور الشخص الفرد، بل و من دور الإنسانية جمعاء في التاريخ. خاصة عندما يعتبر الذات الحرة و الصانعة للتاريخ، ليست هي الذات الفردية و لا حتى مجموع الذوات الإنسانية، بل هي الذات الكونية التي يسميها "الفكرة المطلقة" أو "الروح الموضوعي" و بذلك يكون وجود الشخص الإنساني وجودا ثانويا ملحقا بوجود آخر مطلق و مثالي. 

      3)أطروحة جورج غوسدورف.
      ينطلق غوسدورف من منظور عملي واقعي، يرى بموجبه أن الشخص الأخلاقي لا يتحقق بالعزلة و التعارض مع الآخرين، بل بالانفتاح عليهم و تضامنه معهم. و في هذا يقول: "الشخص الأخلاقي لا يوجد إلا بالمشاركة. إنه ينفتح بذاته على الكون و يستقبل الغير" و بناء على هذا التحديد يميز غوسدورف بين الفرد و الشخص: فالفرد هو من يضع نفسه في تعارض مع الآخرين، بل في مقابل العالم و يتصور ذاته كبداية مطلقة. أما الشخص فهو من يدرك أنه لايوجد إلا بالمشاركة. و تبعا لذلك يرى أن قيمة الشخص تتحدد من خلال انفتاحه على الآخرين. و في أشكال التضامن الاجتماعي الإنساني لا في مجال الوجود الفردي المنعزل. 

      4)أطروحة جون راولز.
      جون راولز فيلسوف أمريكي معاصر، شكل كتابه "نظرية العدالة" مثار جدل واسع في الأوساط الفكرية و السياسية. تقوم فلسفته على تصور مثالي للفلسفة السياسية في المجتمع الليبرالي. فهو يعمل على ردم الهوة بين الحرية و اللامساواة، كمحاولة للحد من تناقضات النظام السياسي اللبرالي. و ذلك باعتماد مبدأي التوحيد و التفريق:
      *كل الناس أحرار (الحرية) و لهم الحق في النسق الموسع للحريات الأساسية بالتساوي (المساواة).
      *من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسع للحريات فوارق اجتماعية و اقتصادية هائلة بين الناس(اللامساواة). شريطة أن تنظم هذه اللامساواة على الشكل التالي:
      أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا، أي ضحايا النظام الرأسمالي. و أن تنبع من مبدأ تكافؤ الفرص في الوظائف و التعويضات.
      إن راولز يناقش قيمة الشخص في إطار فلسفته التي تقوم على العدالة كإنصاف. و تجعل متنافسين فيما بينهم على قاعدة الندية و المساواة. كما تجعلهم مترابطين على قاعدة التعاون الاجتماعي. إن هذا التصور الاجتماعي و القانوني للشخص يجعل منه قيمة، ككائن ممارس للعدالة المنصفة و للخير بمعناه الأوسع، أي كل ما يمثل قيمة إنسانية سامية. 

      5)استخلاص.
      بناء على ما سبق، يمكن التأكيد على أن الفكر الفلسفي على العموم، يعلي من قيمة الإنسان/الشخص. و من تمة اعتباره قيمة في ذاته بوصفه وعيا و إرادة تتطلع إلى ما هو أسمى. و عدم اعتباره وسيلة لتحقيق حاجات و منافع.إنه قيمة أخلاقية عليا تأخذ معناها من الأمر الأخلاقي العملي، الذي يجعل الشخص موضع احترام مطلق. و تزداد قيمته بامتثاله للواجب و انفتاحه على الآخرين.
      إن الإعلاء من قيمة الشخص، كذات واعية و مريدة، و تمثل غاية في ذاتها، يدفعنا إلى التساؤل عن مدى تمسك الإنسان بحريته و كرامته، و دفاعه عن حقوقه الأخلاقية و الاجتماعية، أمام قوة الإكراهات و الضغوطات التي تواجهه. 


      III- الشخص بين الضرورة و الحرية.
      أن يكون الشخص حجرا يعني أن يكون قادرا على القيام بأفعاله بإرادته، دون منع أو إكراه. و أن يعبر عن أفكاره دون خوف. و أن يكون قادرا على الاختيار بين الفعل و عدمه. غير أن الشخص، و في علاقته بالجماعة و بالآخرين، يتعرض وجوده لنوع من الاستلاب،ه أو التشييء. بسبب الضرورات التي يفرضها المجتمع على أفراده. حيث يبدو الفرد سجين منظومة من القيم و العلاقات التي تحد من آفاقه و تطلعاته الفردية. 
      إشكال المحور: هل الشخص ذات حرة فيما يصدر عنها من أفعال أم أن هناك حتميات تشرط حريته؟ أليس هناك مكان للحرية في حياة الشخص؟ أم أن حريته في حدود ما يخحتاره؟

      1)أطروحة العلوم الإنسانية (الخضوع التام، انتفاء الحرية). 
      تنظر العلوم الإنسانية إلى الذات باعتبارها "شخصية" تقوم على بنية "سيكوفيزيولوجية" و كائن "سوسيو-ثقافي" و بذلك لا يمكنه الانفلات من قوانين الفيزيولوجيا و المحددات النفسية و الإشراطات السوسيو-ثقافية. إن تجاهل هذه الإكراهات هو ما يجعل الإنسان يعتقد بأنه يمتلك إرادة و حرية. 
      ينظر بعض السوسيولوجيين إلى الشخصية الفردية على أنها انعكاس للشخصية الأساسية أو الوظيفية لجماعة الانتماء. و هي بذلك سوسيولوجيا عبر قنوات التنشئة الاجتماعية. 
      و في نفس السياق ، و من منظور سيكولوجي، تذهب المدرسة السلوكية إلى اعتبار الشخصية بمثابة حصيلة لمجموعة من الاستجابات، ترسخت كردود أفعال على مثيرات خارجية، تعمل على كبح أو تشجيع بنيات نفسية معينة. و كذلك تعتبر مدرسة التحليل النفسي الشخصية خاضعة لإكراهات لاشعورية، تتشكل في مرحلة الطفولة –على الخصوص- و بذلك يقلص فرويد من فعالية الذات/الأنا (التي كانت واعية و حرة في التراث الفلسفي) و تعتبرها خاضعة لعمليات نفسية لاشعورية تحد من حرية الشخص الإنساني.
      إذن ف "الأنا" خاضع (ليس حرا) لدوافع "الهو" الجنسية و العدوانية. 

      2)أطروحة الفلسفة الماهوية (الحتمية، الحرية المشروطة).
      تنظر هذه الفلسفة إلى الشخص بكونه خاضع لعدة حتميات، لا مناص منها، تشرط وجوده. و عدم تمييزها بوضوح، و عدم وعيه بها، هو ما يوهمه بأنه حر.
      في هذا السياق نجد اسبينوزا يؤكد في كتابه "الأخلاق" أنه لا وجود لجوهر آخر غير الله في الطبيعة. و ما عداه هو صفة للجوهر الأوحد (الله). أي أن الله هو "الطبيعة الطابعة" بمعنى الخالقة، من حيث هو مصدر الصفات و الأحوال. و هو "الطبيعة المطبوعة" أي المخلوقة من حيث هو هذه الصفات نفسها. و هذا هو مذهب الحلول الذي قال به اسبينوزا. أي أن العلة و المعلول من نوع واحد، و أن الكل واحد و ضروري. و قد تجاوز بذلك ثنائية الله و العالم (ديكارت) و ثنائية النفس و الجسد.و على هذا الأساس فالكل يصدر عن طبيعة الله بمقتضى ضرورة لا مفر منها. أي أن كل الأحداث تخضع لحتميات دقيقة. و من جهة أخرى فالله لا يخضع لأي حتمية، فهو الكائن الأكثر كمالا و قوة. لذلك فالاختيار الحر بالنسبة للإنسان مجرد وهم ناتج عن تصور و وعي بالفعل الإرادي و جهل بالأسباب التي تحتم علينا أفعالنا. كما يظن الطفل الخائف أنه حر في الهروب. لذلك فلا وجود ن حسب اسبينوزا لحرية إنسانية خارج الحتمية الطبيعية. حيث أنها لا تطرح بمعنى الاستعباد. و على العكس، فالاستعباد ليس إلا جهلا بالحتمية الطبيعية، و الخضوع لحتميات خارجية. إذ لا تعارض بين الحتمية و الحرية عند اسبينوزا. و الحرية ليست سلبا أو نفيا للحتمية الطبيعية. فلا حرية إنسانية خارج ما هو طبيعة إنسانية.
      و يرى الفيلسوف ذو النزعة الشخصانية، إيمانويل مونيي، أن الشخص يستطيع أن يمتلك حريته و ينعتق من الضرورات البيولوجية و الحتميات الطبيعية. إلا أن حريته تبقى مشروطة بوضعه الواقعي، و لا تتحدد إلا عندما يتجه الإنسان نحو التحرر في إطار التشخصن. أي الخروج بالذات من عزلتها و انفتاحها على جماعة إنسانية، تقوم بحماية ميولات الأشخاص. و من ثم ، فإن معرفة الشخص لذاته تتأسس على إدراك الشخص لميولاته، كوسيلة لتحقيق حريته. و يؤكد مونيي على من مهام المجتمع مساعدة الأشخاص للتعرف على ميولاتهم بكامل حريتهم الروحية. و كذلك توفير الوسائل المادية الضرورية لتنمية هذه الميولات. بحيث أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقرر مصيره في حدود ما يوفره مجتمعه من اختيارات.

      3)أطروحة الفلسفة الوجودية (الحرية المطلقة).
      ضدا على مواقف الحتمية و الخضوع التام، نجد المواقف الإرادوية تؤكد على أهمية الوعي و الحرية في الوجود الإنساني. و في هذا السياق تعلن الفلسفة الوجودية عن ميلاد إنسان جديد. حيث أن جون بول سارتر يعتبر الخضوع للأدوار السوسيو_ثقافية رهنا لحريتنا و تنازلا عن الشخص فينا. في حين أن الإنسان مشروع حر و مفتوح على إمكانات لا نهائية. و يقصد بذلك أنه يتعالى على شروط وجوده بشكل مستمر، و دائم التجاوز لوضعيته بواسطة الأفعال التي يقوم بها. إنه يقذف بنفسه نحو ما ليس هنا_الآن، أي نحو المستقبل، لأنه لا يريد أن يكون وجوده نهائيا ثابتا. لذا فهو إمكانية مستقبلية دائمة البحث عن علاقات جديدة في ظل واقع جديد أفضل، لأنه لا يقبل الخضوع.و هذا هو دليل حريته. إن تصور جون بول سارتر يندرج ضمن موقف الفلسفة الوجودية. و هي فلسفة معاصرة أخلاقية بالدرجة الأولى، ترى أنه لا توجد ماهية ثابتة للطبيعة البشرية يشترك فيها الناس جميعا. بل كل شخص يخلق ماهيته الخاصة أو شخصيته عن طريق اختياراته و اهتماماته و أفعاله. "فالوجود سابق عن الماهية" أي أن الإنسان يوجد أولا، و يلاقي ذاته في الوجود و هو لاشيء، و يتحدد فيما بعد انطلاقا من أفعاله و اختياراته. فالحرية اختيار و مسؤولية أمام الذات و العالم. أي أن الإنسان مسؤول عن وجوده و عن اختياراته و عن ذاته. إن اختيار الإنسان لذاته هو اختيار للآخرين، و هو اختيار خير دائما.إن ماهية الإنسان _إن وجدت_ هي حريته. و الحرية عند سارتر ذاتية نابعة من شعور الفرد و مطلقة، يقول في هدا الصدد "إن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا، و لا يمكنه أن يرفض هذه الحرية، لأنها حرية مطلقة"
      إن تصور سارتر تعبير أصيل عن التصورات الفلسفية التي تعلي من شأن ذات الشخص، و تجعل منه كائنا متحررا من كل ضرورة. سواء كانت طبيعية أو ثقافية، وراثية أم مكتسبة... و تميزه كوجود ذاتي، ذي وعي و إرادة و حرية و قدرة على الاختيار و تحمل المسؤولية.
      4) استخلاص.
      انطلاقا من المواقف الفلسفية و العلمية التي ناقشت الحرية الإنسانية، ما بين الخضوع التام و الحرية المطلقة أو الحتمية المشروطة، يتضح أن الإشكالية مستمرة و تطرح أكثر من مفارقة و إحراج. حيث أنه من العسير التوفيق بين الحرية و الضرورة، كمفهومين متقابلين. و لكن إذا تناولناهما كمفهومين متكاملين، تغدو الضرورة مواكبة للحرية و شرطها المسبق.
      و في هذا السياق تؤاخذ الماركسية على وجودية سارتر كونها تجعل من الحرية قدرة ذاتية تملي الاختيار، بدلا من دمجها في الصيرورة التاريخية. لتجعل قدرة و فعالية لبلوغ الهدف. فالناس يجعلون أنفسهم أحرارا في السعي إلى غايات أرادوها، فبقدر ما يكتسب الناس معرفة بقوانين الطبيعة و المجتمع، بقدر ما يستخدمونها لتحقيق حريتهم. و منه فالحرية ليست هي الانفلات من الضرورة و نفيها، بل فهمها و اتخاذ القرار و الاختيار في ضوء الفهم الواقعي لما يفعلونه. فالفرد لا يحقق حريته حسب ماركس إلا في المجتمع، و وسيلته إليها (الحرية) المعرفة و الفعل (الشغل) المتعالي على عمليات التشييء و الاستلاب. و لتحقيق وجوده كشخص عاقل و مريد و مسؤول عن أفعاله، و منفتح على الغير، و مشارك في تحقيق الأهداف الإنسانية المشتركة. 

      فكرة التقدم في التاريخ.

       فكرة التقدم في التاريخ.
      إن التاريخ باعتباره سلسلة من الأحداث الماضية، و مجموعة من الخبرات المرتبطة بالحضارات البشرية في تعددها و تنوعها، و هذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن مساره و منطقه.
      إشكال المحور: فكيف يتم يتطور التاريخ؟ هل يعرف تقدما أم تكرارا؟ هل هو تقدم محكوم بضرورة أم أنه يسير تحت رحمة الصدفة؟ هل التقدم خطي متصل أم منفصل يتم عبر قفزات؟ هل هناك نهاية للتاريخ أم أن تقدمه لا نهائي؟

      1)أطروحة ابن خلدون.
      تمثل فلسفة التاريخ الخلدونية و نظريته في العصبية نموذجا للتصور الدوري للتاريخ، الذي تغيب عنه فكرة التقدم و التراكم. لقد استطاع ابن خلدون أن يلتقط المبدأ المفسر للسيرورة التاريخية أو العمران البشري. متمثلا في أهم مظاهره و هي الظاهرة السياسية أو الدولة. إن العصبية هي العامل المفسر لقيام الدول و انهيارها. و العصبية كما الدولة تبدأ بالفتوة ثم القوة فالهرم و الشيخوخة ثم الاندثار. تاركة المجال لعصبية أخرى ستعرف نفس المصير.
      2)أطروحة ريمون آرون.
      تتضمن فكرة التقدم بالنسبة لآرون حكما معياريا قيميا، ينتقص من صلاحيتها العلمية، مفاذه أن المجتمع اللاحق أفضل من السابق. علاوة على أنه حكم ذو صلاحية قطاعية لا يمكن أن ينسحب على التاريخ برمته. فإذا كنا نعاين في مجالي العلم و التقنية تراكما و تقدما لا سبيل لإنكارهما. لأن طبيعتهما تفرض تقدما يمكن قياسه. فإن إثبات التقدم في مجالات الفن و الدين و السياسة يظل قضية إشكالية. و على العموم فآرون ينظر إلى التاريخ كتقدم نحو الأمام. و ذلك من خلال الاحتفاظ بأنشطة الجيل السابق و تجديدها. إنه تقدم يحكمه النشاط الإنساني المتراكم و المتسم بالطابع العلمي.

      3)أطروحة ليبنتز.
      يعتبر ليبنتز أن التقدم الإنساني يسير بوثيرة متصلة و بشكل مستمر إلى ما لا نهاية. فهو يسعى في اتجاه بناء حضارة إنسانية راقية، على الرغم من أنه يتميز بعدم قابليته للاكتمال. حيث أن ليبنتز يعبر عن الرأي الذي كان سائدا في القرنين 17 و 18 م. و الذي مفاذه أن البشرية تتطور باتجاه التقدم الدائم. و أن المجتمعات تتحول من حالة البساطة في تنظيماتها إلى حالة أكثر تعقيدا و تمايزا. و لذلك فالبشرية بمثابة إنسان واحد، يبقى على قيد الوجود، و يتعلم باستمرار.

      4)أطروحتي هيجل و ماركس.
      يرى هيجل في فكرة التقدم حقيقة الصيرورة. فحركة التاريخ هي حركة التحقق التدريجي للحرية و اكتمال الفكرة المطلقة و تحققها النهائي. غير أن كارل ماركس يرفض هذا التصور المثالي للتاريخ، حيث يرى أن تطور التاريخ يخضع لحتمية الصراع الطبقي، و هو صراع من أجل البقاء. فحركة التاريخ عند ماركس حتمية (سيادة الشيوعية) و ترتبط بالأساس المادي للمجتمع، الذي يتجلى في تعاقب أنماط الإنتاج (قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج).

      5)أطروحة كلود ليفي ستراوس.
      لقد قدم ليفي ستراوس انتقادا حادا لفكرة التقدم. فالقول بها يعني قبول تصنيف و ترتيب يسلم بهيمنة النموذج الغربي، و بكونية تكذبها الأنثروبولوجيا. إن ما يميز التقدم البشري حسب ستراوس هو كونه يتم عبر تحولات و قفزات فجائية. و هذا ما تؤكده المعارف ما قبل التاريخية، و الحفريات. حيث أثبتت وجود أنماط حضارية مختلفة في المكان الواحد. و هكذا فالتطور البشري ليس تراكما تنضاف من خلاله مكتسبات كل مرحلة إلى أخرى،بقدر ما هو جدلي، أي أن التقدم في التاريخ منفصل و غبر مستمر، و يسير بدون اتجاه عبر قفزات و طفرات.
      6)استخلاص.
      بناء على ما سبق، يمكن القول بأن فكرة التقدم قدمت بصددها تصورات مختلفة. بين من رفضها و قال بالمراوحة، و أن التاريخ يعيد نفسه. و من جعل التقدم خطا متصلا و من جعله منفصلا. و هناك من قال بنهاية التاريخ، كحتمية تقف عندها عجلته ويتوقف عن كل حركة و تطور. و على العموم فإن معالجة إشكالية التقدم، ربما لا تقتضي بالضرورة أن تطور التاريخ له بداية و نهاية، كما أشار إلى ذلك إدوارد هالت كار. فالتاريخ عملية تودع فيها مطالب و أحوال العصور المتعاقبة، و هو يخضع لمجموعة من الانحرافات. فهل للإنسان قدرة على تحديد مسار هذه الانحرافات؟ و هل يمكن الحديث عن فاعلية الإنسان في 

      III- دور الإنسان في التاريخ.

      :38 pm
      III- دور الإنسان في التاريخ.
      إن التساؤل عن دور الإنسان في التاريخ هو استمرارية للتساؤل حول منطق التاريخ، من زاوية الفاعلية الإنسانية. 
      إشكال المحور: 
      فهل من الممكن القول أن للإنسان دورا في التاريخ؟ هل الإنسان فاعل تاريخي و صانع لتاريخه أم أنه خاضع له؟ 
      1) أطروحة هيجل.
      يرى هيجل أن "مكر التاريخ" يجعل الإنسان يعتقد أنه صانع التاريخ، غير أن الإنسان لا ينفذ سوى إرادة التاريخ وفق مسار الروح المطلق. فالتصور الهيجلي يرى أن الإنسان مجرد وسيلة في يد الضرورة. أو بالأصح في يد "الروح الموضوعي" الذي يوجهه ليحقق غاياته. فحتى لو كان هذا الإنسان عظيما فهو لا يصنع التاريخ بقدر ما يصنع التاريخ هذا العظيم. 
      2) أطروحة ماركس.
      لقد رفض كارل ماركس ما اعتبره هيجل تفسيرا عقلانيا للتاريخ. فأنزل بذلك الجدل من سماء الميتافيزيقا إلى أرض الواقع الإنساني الحي و العيني. و أبدل كلية هيجل _ الخاصة بروح الكون_ بكلية واقعية هي التشكيلة الاقتصادية_الاجتماعية، و بالتالي أحل ماركس الإنسان الاجتماعي محل "روح العالم" فأصبح التاريخ تاريخ الإنسان العامل و المنتج. و ليس تاريخا صوفيا، يستعرض مراحل تطور وعي "العقل الكوني" لذاته. و بهذا يكون ماركس قد جعل دور الإنسان في التاريخ مشروطا بواقعية معطاة و ظروف خارج عن إرادته. كما يِؤكد ماركس أن التفسير العقلاني العلمي للتاريخ يجب أن يطلب من الواقع الاقتصادي و الاجتماعي، أو ما يسميه ماركس بالبنية التحتية "البراكسس" و التي تتألف من قوى الإنتاج (عمال_آلات_أرض...) و علاقات الإنتاج (طريقة تنظيم وسائل الإنتاج). و مجموع وسائل الإنتاج و قوى الإنتاج يكون ما يسميه ماركس بنمط الإنتاج (الرأسمالي_العبودي_الاشتراكي). و يرى ماركس أن التغيير الذي يطرأ على قوى الإنتاج يصطدم بعلاقات الإنتاج التي لا تميل إلى الاستجابة لما وقع من تغيير في قوى الإنتاج. إن هذا التناقض يؤدي إلى وقوع صراع اجتماعي هو "الصراع الطبقي" الذي يعد المحرك الفعلي للتاريخ حسب ماركس. 
      3) موقف سارتر.

      ينطلق جون بول سارتر من الرسالة التي عرضها انجلز على ماركس، و التي يقول فيها "إن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم و لكن في وضع محدد يشرطهم" متسائلا حول ما إذا كان التاريخ هو الذي يصنع الإنسان.
      فالإنسان يكون في عهد الاستغلال نتاجا لمنتوجه الخاص و فاعلا تاريخيا، لا يمكن اعتباره منتوجا. هذا التناقض لا يعتبره سارتر ثابتا بل ينبغي فهمه في سياق حركة البراكسس أي الممارسة.و هذا ما سيضيئ جملة انجلز حسب سارتر. أي أن الناس يصنعون تاريخهم و ليست الشروط التاريخية السابقة هي التي تصنع التاريخ. و من ثمة فإن سارتر يركز بشكل قوي على الإمكانية المعطاة سلفا للإنجاز، ليتجاوز الإنسان وضعه و يحقق مشروعه داخل حقل الممكنات. التي تعتبر مجموع الاحتمالات المتاحة أمام الإنسان بشكل موضوعي و ذاتي ليختار منها حسب وعيه و ظروفه. و بهذا المعنى يصبح الإنسان فاعلا تاريخيا و صانعا لتاريخه حسب سارتر. و حتى إن لم يصنع الإنسان تاريخه فهناك من يصنعه له. 

      4) موقف ميكيافيل.

      إذا كان سارتر يرى بأن الأحداث التاريخية لا تقع نتيجة لأي مخطط خارجي سابق، كما أنها لا تندرج مطلقا تحت أي نظام محدد أو مقرر سلفا. فإن المفكر و السياسي الإيطالي ميكيافيل يرى عكس ذلك. فهو يقول بأن الأحداث التاريخية يحكمها القضاء و القدر، و أن الأمور تجري وفقا لمشيئة الحظ. غير أنه لا يتوقف عند هذا الحد، فالإنسان بدوره قادر على تغيير و مواجهة هذا القدر بفضل إرادته القوية. و هكذا فميكيافيل يربط التاريخ و الأحداث بمكونين أساسيين الإنسان و القدر. 

      5) استخلاص.

      لقد ظلت عجلة التاريخ تطرح أكثر من سؤال حول من يحركها و يتحكم فيها. أهي الشروط الميتافيزيقية المثالية أو الشروط الواقعية الموضوعية، أم هو الإنسان ذاته؟ أكيد أن التاريخ له حركته الخاصة به، و المتضمنة في محتوياته و تناقضاته، و أكيد كذلك أن الإنسان له القدرة على التفاعل الإيجابي مع الحركية التاريخية، عبر التأثير فيها و التأثر بها. هذا التفاعل الفعال مع الأحداث التاريخية كان نتيجة طبيعية و منطقية للمعرفة التي كونها الإنسان، عبر تاريخه، عن عالمه الذاتي و العالم الموضوعي المحيط به. فما طبيعة المعرفة البشرية؟ 

      العنف

      العنف 

      تقديم 
      يستخدم لفظ العنف لوصف كل سلوك عدواني فرديا كان او جماعيا,يقدم على استخدام القوة بهدف اخضاع الغير ضدا على ارادته,ومعنى ذلك ان القصدية هي التي تجعل من سلوك ما عنيفا,وليس فقط ما يترتب عن الفعل من اثار تدميرية,فقد نتحدث عن فعل مدمر يكون مصدره الحيوان او الطبيعة ولكنه عنف مجازي لا يحمل اي معنى في داته مادام غير صادر عن نية و ارادة حرة...فالعنف يخص الانسان بوصفه الكائن الوحيد الذي يتخذ
      لديه هدا السلوك شكل تصرف واع غايته الحاق الاذى بالغير بأساليب مختلفة.بهدا المعنى يبدو العنف مكونا اساسيا للوجود البشري و لا يشكل استثناء رغم ان الانسان يظل متعلقا بالامل في التحرر منه وهو ما أكده كونراد لورنتز في قوله"لا احد بمقدوره انكار الطبيعة النزوعية و الغريزية العدوانية للانسان. . 
      *المجال الاشكالي 
      كيف نشأ العنف ؟ وما اشكاله ؟ 
      ما حضور العنف في التجربة التاريخية الانسانية؟
      هل هناك ضرورة للعنف؟ ما مدى مشروعيته؟

      I) أشكال العنف
      ما الأسباب التي أدت إلى نشأت سلوك العنف عند الإنسان؟ كيف نشأ و ما أشكاله؟
      1/موقف اريك فروم 
      يؤكد اريك فروم ان مختلف مظاهر العنف في السلوك الانساني ليست ناتجة عن غريزة تدميرية او عن الطبع البشري بل هي ترتبط بظروف خارجية,حيث ان هناك طاقة تدميرية في الانسان تقوى بفعل بعض العوامل الخارجية التي ترتبط بالطقوس و الشعائر الدينية
      2/موقف سيغوند فرويد 
      يؤكد مؤسس التحليل النفسي ان الانسان مزود طبيعيا بالميل نحو العنف كوسيلة لحسم الصراع لصالحه مثله في ذلك مثل الحيوان وان كان يلجأ احيانا الى طرق حضارية,يقول فرويد"انه لمبدأ عام ان صراعات المصالح بين الناس تقوى بستخدام العنف وهدا صحيح بالنسبة للمملكة الحيوانية بأسرها, وهي المملكة التي لايملك الناس استبعاد انفسهم منها" ففرويد يرى ان هناك قوتين او غريزتين تتفاعلان بشكل معقد داخل الكائن البشري,هما غريزة الحياة التي تنزع نحو الاستمرارية في الحياة والحفاظ عليها (ايروس Eros) وغريزة الموت التي تميل نحو العدوان و التدمير وانهاء الحياة (تاناتوس Thanatos) وغالبا ما تتدخل الغريزتان في توجيه سلوك الفرد الذي يجمع بين الخلق و البناء و الميل نحو التذمير وفرويد بذلك يعتبر ان العنف كان ملازما للوجود البشري كسلوك يؤدي الى اختلال العلاقات بين الافراد ويهدد الحضارة الانسانية بالانهيار.
      3/موفق بورديو 
      يعتقد بورديو ان هناك عنفا اخر الا و هو العنف الرمزي,وهذا العنف يحقق نجاحا اكثر من العنف المادي ونجاحه يكمن في قدرته على ممارسة تأثيره على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم,فالانسان بحكم ولادته ينشأ في محيط سوسيوثقافي فيصبح بذلك وبشكل تلقائي,تحت تأثير مجموعة من التمثلات و المسلمات, وهكذا تصبح المعتقدات المتداولة بين الناس وسيلة للثأثير اللطيف و اداة للسيطرة والتحكم دون اعتماد العنف المادي.
      4/موقف بودريار
      يتجاوز بودريار الموقف التقليدي للعنفن الذي ينظر إليه كسلوك يرتبط بالشر و يتناقض مع الخير ( الحربين العالميتين I و II الحرب الباردة ) فالتفكير المعاصر في العنف يجب أن يخرج عن دائرتي الخير و الشر. فالإرهاب كشكل من أشكال العنف المعاصر لا يؤطره هذين المفهومين، حيث أن الإرهاب كمفهوم للشر أصبح يرتبط بجميع الميادين و يسكن في التخوم و الهوامش، إنه يتعايش مع الإنسان و يسكن داخله.

      II) العنف في التاريخ 
      الاشكال : 
      ما هي الاسباب التي تؤدي إلى استمرار العنف في التاريخ ؟ هل يرتبط ذلك بقوانين ردعية و بمؤسسات ثقافية و تربوية ؟ ام ان العنف عنصر يساهم في تحقيق توازنات معينة ؟
      1/موقف فريدريك انجلز 
      تعطي الفلسفة الماركسية اهمية قصوى للعامل الاقتصادي في تطور المجتمعات البشرية كما يتضح في نظرية انماط الانتاج التي يمثل فيها الانتقال من نمط انتاج الى اخر تقدما على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي ...
      فمع بروز المجتمع الطبقي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ، فقد اصبح كل نمط انتاجي ينطوي على تناقض بين قوى و علاقات الانتاج يعبر عن نفسه في صورة صراع طبقي عنيف يؤدي الى تحول ثوري عند ما يبلغ درجته القصوى و بهذا المعنى يمكن الحديث عن عنف اقتصادي يظل سمة ملازمة لتطور المجتمعات الطبقية و يحدد كذلك مسار العنف السياسي لان الحالة الاقتصادية هي التي تتحكم في النظام السياسي بشكل يجعله مهددا بالزوال عندما يصبح عقبة في وجه التطور الاقتصادي. كما يؤكد ذلك حالة كل من الثورة الفرنسية و المانيا و روسيا
      2)موقف فرويد
      يعتقد فرويد ان اهم تحول عرفه العنف تاريخيا يتمثل في الانتقال من الاعتماد المطلق على القوة الجسمانية الى الاعتماد على العقل,فمنذ ان اصبح الانسان يركز على استعمال الاسلحة اصبحت الحرب عقلية, ويكون الانتصار حليف من يملك افضل الاسلحة, الا ان التاريخ يشهد على ان الانسان نهج مسارا اخر لمقاومة كل من العنف الجسدي و العقلي هذا من خلال الاحتكام الى سلطة القانون, هكذا اصبح الحق قوة جماعية لانه يترجم _في الحقيقة_ اتحاد قوى ضعيفة.
      3)موقف طوماس هوبز
      يؤكد هوبز على ان حالة الطبيعة هي حالة مساواة بين الناس,اي ان افراد النوع البشري كانت لهم نفس الرغبات ونفس الحقوق على كل الاشياء. وسوف تقودهم هذه المساواة الطبيعية الى العنف و النزاعات ويحدد هوبز ثلاث اسباب اساسية لهدا الصراع:-التنافس الذي ارتبط بالمصلحة الذاتية -الحذر الذي كان ضروريا لتحقيق الامن -الكبرياء الذي ارتبط بالسمعة.
      لذلك فحالة الطبيعة هي حالة حرب الكل ضد الكل, ولا يعني ذلك ان القتال كان على الدوام فعليا بل كانت هناك ارادة وتطلع للدخول في الصراع من اجل المحافظة على البقاء وخوفا من الموت.
      4)بيير فارنيه
      يؤكد فارنيه على ان مختلف مظاهر العنف في التاريخ في التاريخ تتحدد من خلال قوانين اجتماعية ولذلك فهي ليست تعبيرا عن فوضى وانما هي مقننة وينبغي التميز هنا بين نزاعات وحروب داخلية بالنسبة للمجتمع الواحد,ونزاعات خارجية بالنسبة لمجتمعات اخرى.وتكون الاولى منظمة وتخضع لقواعد في اهدافها ووسائلها, اما الثانية فتستعمل فيها كل الوسائل المتاحة غير ان هذا التمييز ليس دائما صحيحا,فالحروب ليست غاية في ذاتها وإنما هي تعبير عن توترات اجتماعية,ونتاج لتعارض منظومات رمزية وثقافية.
      5) جيدنز
      يؤكد جيدنز على ان العنف الذي كان سائدا في المجتمعات الأيوية اتخد شكل الية للعقاب في يد السلطة الايوية, و ارتبط كذلك باقرار الامن و النظام ,كما ارتبط كذلك على الخصوص في المجتمعات ما قبل الحديثة, بالدفاع عن الشرق,و اذ كان هذا النظام الاخير من العنف قد بدأ ينهار ,او انه انهار فعلا,في غالبية البلدان المتقدمة ليحل محل مجهودات لإحلال و الدفاع عن حقوق الانسان.

      II ) العنف و المشرعية
      الاشكال:
      هل يحق اللجوء الى العنف واحتكاره بدعوى الدفاع عن تصور خاص لما هو عادل وخير و حق؟ هل يمكن الحديث عن اللا عنف؟
      1)موقف فير
      يؤكد السوسيولوجي الالماني ماكس فيبر ان الدولة يحق لها اللجوء الى القوة والعنف فسيادتها تقوم على عنف مشروع. و يميز بين ثلات اسس تستمد منها الدولة مشروعيتها للسيطرة و العنف سلطة: التقاليد و المقدسات. سلطة كارزمية،تتأسس على السحر الشخصي للزعيم لما يتميز به من مواصفات. سلطة قائمة على قواعد عقلانية وقوانين تستلزم الطاعة (سلطة رئيس الدولة)
      2) موقف جوليان فروند
      يؤكد في تحليله لسوسيولجيا ماكس فيبر ان النشاط السياسي للدول يفترض وجود مجال جغرافي تفرض فيه الدولة سيادتها وتعمل على تحقيق الامن، داخل حدودها و الحفاظ عليه.وهذا ما يلزم الناس القاطنين داخلها بالخضوع للسلطة لذلك يحق للدولة اللجوء الى القوة والاكراه، المادي كلما دعت الضرورة الى ذلك. وهذا الامر يتطلب امتلاك قوة عسكرية وتنظيم اداري يسهل التدخل في جميع الميادين و قوانين معقلنة. 
      3) موقف رالف لينتون
      يحلل رالف لينتون بعض مظاهر العنف من زاوية انثروبولوجية, فبعض المجتمعات تلجأ الى عدة اجراءات للوقاية من اعمال العنف, اما بإعطاء المشروعية لبعض المنازعات من اجل حسم الخلافات ... و اما باستنكارها اذا كانت تؤدي الى ادى بالغ للافراد, بينما ترفض مجتمعات اخرى اللجوء الى العنف مهما كانت الظروف والمبررات لذلك تعتمد لمواجهة الاعمال الشريرة والعدوانية على الية العقاب التي ترتكز على الطرد و النفي.
      4)موقف غاندي 
      يرفض غاندي العنف جملة وتفصيلا,وبشكل مطلق و راديكالي مهما كان شكله او غايته.
      و يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني اتجاه الحياة انه الغياب "التام لنية الاساءة تجاه كل ما يحيا" بمعنى ان اللاعنف كالعنف لا يقع فقط على مستوى الفعل، بل ايضا على مستوى النية. وحسب غاندي يجب التعامل مع العنيفين و الظلمة بطريقة المقاومة الاخلاقية و الذهنية, اي رفض العنف و الامتناع عن ممارسته بالعقل او بالنية مهما كانت الغايات و الاهداف,فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون بسيف آخر بل بأن اخيب امله في ان يراني اواجهه بمقاومة مادية بل هو سيراني اواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.

      الشخص والهوية:




      *المحور الأول: الشخص والهوية:

      ۩ إشكال المحور: إذا كانت الهوية تشير إلى الوحدة والتطابق بحيث تتيح الحديث عن تطابق الشيء مع نفسه، فما أساس هوية الشخص؟ ما الذي يجعل الشخص هو هو؟ هل يرجع تطابق الشخص مع ذاته إلى التفكير، أم إلى الإحساس، أم إلى الإرادة؟
      ۩ مقاربة الإشكال: 

      1/ موقف ديكارت:

      يتبنى مؤسس الفلسفة الحديثة ديكارت أطروحة ترى أن التفكير هو أساس هوية الشخص. ذلك أنه يستهل موقفه بالتساؤل عن ماهية الذات: "من أنا..؟"، ليجيب مؤكدا كون الذات شيئا مفكرا، أي شيئا يمارس جملة من العمليات الذهنية كالشك والفهم والتصور. ومن ثم يعتبر ديكارت هذه العمليات خصائص مميزة للإنسان، معللا ذلك بإثارة مجموعة من الأسئلة الاستنكارية التي يمكن ترجمة مضمونها في النقاط التالية:
      * الاعتقاد بأن الذات هي الشخص نفسه الذي يقوم بالعمليات الذهنية من شك وفهم وتصور...
      * اليقين بأن الذات تتمتع بالوجود مادامت تفكر، حتى لو كانت في حالة نوم دائم، أو كانت ضحية تضليل إلهي.
      * الإقرار بكون العمليات الذهنية لا تنفصل في وجودها عن الذات.
      وفي ضوء ما تقدم، انتهى ديكارت إلى معرفة الذات على نحو واضح باعتبارها ذاتا مفكرة.

      2/ موقف شوبنهاور:

      تتأسس هوية الشخص، في منظور شوبنهاور، على الإرادة، بوصفها تلك القوة التي تنشد الحياة والتي تتجلى في الرغبات. فقد نظر، في أولاً، في الجسم، فتبين له أنه لا يمكن أن يكون، سواء في مادته أو صورته، أساسا للهوية الشخصية. ويعود سبب ذلك إلى كون الجسم عرضة للتغير والتجدد مع مرور الزمن، على حين أن ما يشكل أساس وجود الشخص ويخوله إدراك ذاته باعتباره هو نفسه، يعتبر عنصرا ثابتا لا يتأثر بالزمن. ثم نظر شوبنهاور في الذاكرة، فاتضح له أنها ليست أساس الهوية الشخصية مادامت تتسم بالضعف، فهي لا تحتفظ إلا بالأحداث الرئيسية، كما أنها قابلة للتلف بفعل المرض أو التقدم في السن. ووجه شوبنهاور نظره إلى القدرة على المعرفة، فسجل كونها مجرد وظيفة بسيطة من وظائف الدماغ، لينفي بالتالي أن تكون أساسا لهوية الشخص. وخلص في نهاية التحليل إلى أن الإرادة باعتبارها تمثل الطبع الثابت للشخص هي أساس الهوية الشخصية.
      ۩ خلاصة المحور: 
      بناء على ما تقدم، يمكن القول إن مسألة الهوية الشخصية تفضي بنا إلى موقفين فلسفيين متعارضين: أولهما يشرط الهوية بالتفكير، وثانيهما يقيم الهوية على الإرادة كقوة تتجسد في الرغبات.