الاثنين، 16 يونيو 2014

الوضع البشري

مجزوءة الأولى: الوضع البشري.

تقديم:
يتسم الوجود البشري بتعقده و صعوبة تحديده، فهو يخضع لشروط ذاتية و موضوعية و تفاعلية. حيث أن مثل هذا التحديد يدل من ناحية على أن الوضع البشري خاضع لشروط تضفي عليه طابع الضرورة و الخضوع (تجعل منه موضوعا أو شيئا كباقي أشياء العالم). و من ناحية أخرى يدل على بعد خاص بالإنسان يتمثل في قدرته على المبادرة و التباعد، و ذلك عن طريق تفاعل حر مع الآخر و مع المحيط (ما يجعل منه ذاتا حرة).
إذن فالوضع البشري يتميز بالازدواجية . لأن الإنسان يوجد في العالم، يعيش مع الآخرين و يخضع بشكل قبلي (الشرط الموضوعي للوضع البشري) لحتميات طبيعية و بيولوجية... و لإشراطات ثقافية و اجتماعية... و في المقابل نجد أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع التباعد عن وضعه المشروط بسلسلة من الضرورات، و تجاوز محددات وجوده، لكي يختار نمط وجود خاص و متميز. و ذلك لأنه ينفرد بالحرية و الوعي و المسؤولية، و القدرة على التفكير و الدخول في علاقات (واعية) مع الآخر، يرسخ من خلالها القيم التي يحملها في ذاته (الشرط الذاتي للوضع البشري). 
فالإنسان لا يدرك وجوده إلا بالمشاركة و التعايش داخل مجموعة النوع البشري ، حيث يقبل وجوده النسبي و ينفتح على وجود الآخر. و من هنا يتضح أن الوضع البشري يتحدد من خلال بعدين إثنين:
• بعد الوجود الذاتي المحدد بالوعي و القدرة على تملك الذات (الأنا)، عن طريق التفكير. و يحيل هذا البعد على مفهوم الشخص.
• بعد الوجود التفاعلي المحدد من خلال علاقة التأثير المتبادل بين الأنا و الأنا الآخر. و يحيل هذا البعد على مفهوم الغير.

المفهوم الأول: الشخص.
تقديم.
إن الوضع البشري هو ما يحصر و يحدد الذات الإنسانية في مختلف مستويات وجودها ، و هو ما يجعله وضعا متميزا بالإزدواجية من ناحية و بالتناقض من ناحية أخرى. فرغم اختلاف و تعدد الأبعاد المحددة للشخص إلا أنه يظل محافظا على هوية ثابتة و مستقرة. يستمد أساسها إما من فكره أو من إحساسه أو من بعده الروحي أو ربما من قوة إرادته. كما أن هذا الشخص كذات واعية مفكرة، يعتبر قيمة عليا دون باقي الكائنات. قد يستمدها من قدراته العقلية الفكرية أو من عقله العملي الأخلاقي. و يخضع الشخص كذلك كأنا مدرك و مفكر للضرورات البيولوجية و للحتميات الوجودية و كذلك للإشراطات النفسية و التفافية و الاجتماعية... ما يجعله مدركا حدود حريته، و قدرته على التجاوز و الابتعاد.
بناء على هذه المفارقات التي يتصف بها التناول المفاهيمي للشخص، تطرح مجموعة من الأسئلة الإشكالية كالتالي:
• كيف تحدد هوية الشخص؟ ما هي الخصوصيات الجوهرية الكفيلة بتحديد مفهوم الشخص؟
• إذا كان الشخص/الإنسان متميزا عن باقي الكائنات، فمن أين يستمد قيمته و تميزه؟ ما أساس قيمة الشخص؟
• هل يتميز الشخص بالحرية و القدرة على الاختيار أم أنه محكوم بضرورات بيولوجية/نفسية و أخرى ثقافية/اجتماعية؟

I- الشخص و الهوية. 
رغم تعدد و تنوع بل و تعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة و هوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. فالهوية هي خاصية ما هو مماثل و مطابق لذاته و مختلف عن غيره عبر الزمان و اختلاف المكان. 
إشكال المحور: إذا كان لكل شيء ماهية (هوية / جوهر ) تميزه عن غيره، فهل توجد ماهية تخص الفرد؟ و إذا عرضنا الشخص على محك التاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا مستقرا رغم تغيرات الجسم و أحوال النفس و انفعالاتها؟ ما أساس الهوية الشخصية؟ هل تقوم الهوية على الذات المفكرة أم على الإحساس أم على الإرادة؟ أم على الطبع و الذاكرة؟ أم على الوحدة الدينامية لمكونات الجهاز النفسي؟ 

1)أطروحة التصور الفلسفي الماهوي.
ينطلق هذا التصور من اعتبار الهوية معطى فطريا تلقائيا بسيطا، متجذرا في الطبيعة الإنسانية. تستمد أساسها من وجود "أنا" ماهوي جوهري و ثابت, رغما عن تغير الانفعالات و الأفكار و الحالات الشعورية. و في سياق هذه المفاربة الميتافيزيقية للهوية الشخصية، نذكر أفلاطون الذي انطلق من ثنائية: جسد/روح، معتبرا الجسد مكون مادي متغير، في مقابل النفس كمكون جوهري ثابت و أزلي. و النفس هي التي تعبر عن حقيقة ( جوهر ) الوجود الإنساني. في نفس السياق نجد الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت في العصر الحديث، يؤكد على أهمية " الفكر" في بناء و فهم حقيقة الشخص. و دعى في المقابل إلى تجنب الحواس لأنها خادعة و توقع في الخطأ. فالنفس عند ديكارت جوهر قائم بذاته، خاصيته الأساسية " التفكير". و هو ما يشكل الهوية الشخصية للكائن البشري. بل إنها صفته الأكثر يقينية و الأكثر صمودا أمام أقوى عوامل الشك. لذلك فالشخص عند ديكارت هو بمثابة "أنا" مفكر. و الهوية الشخصية تنحصر أساسا في الفكر المجرد، لأنه هو الأمر اليقيني الذي لا يطاله الشك.
و في مقابل ديكارت نجد الفيلسوف الإنجليزي ذو النزعة التجريبية يعرف الشخص بوصفه كائنا مفكرا عاقلا، يملك القدرة على الرجوع إلى ذاته باستمرار و تعقلها و تأملها في وحدتها و مطابقتها لنفسها، بواسطة الإدراك الحسي. حيث أن الفلسفة التجريبية لا تقر لشيء بصفة الواقعية و الحقيقة ما لم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس. و عليه فالهوية الشخصية ليست سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا. يرى جون لوك أن ما يجعل الشخص "هو هو" عبر أزمنة و أمكنة مختلفة، هو ذلك الوعي الذي يصاحب مختلف أفعاله و حالاته الشعورية من شم و تذوق و سمع و إحساس و إرادة... تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية. مما يعطي لهذا الوعي بالإحساس استمرارية و ديمومة، فتتشكل بذلك "الأنا" كذات مطابقة لذاتها أي لها هوية.
إذا كان كل من ديكارت و جون لون يعتبر الشخص كائنا عاقلا و مفكرا، تقوم هويته على أساس الفكر المجرد الذي لا يطاله الشك (ديكارت) أو على أساس الوعي المصاحب للإحساس و المستقر في الذاكرة ( لوك)، فإن الفيلسوف الألماني شوبنهاور يربط هوية الشخص بالإرادة. إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى و نتغير كليا. من هنا ينفي شوبنهاور ان تكون هوية الشخص متوقفة على مظاهره الجسمية لأنها خاضعة للتغير. كذلك يرفض ربط الهوية بالذاكرة و الشعور، لأن معطيات الشعور في تغير دائم و أحداث الماضي يعتريها النسيان بفعل تلف الذاكرة بسبب الشيخوخة أو المرض. كما أن الإنسان قد ينقطع في بعض الحالات عن التفكير. فالعنصر الثابت فينا إذن، و الذي يشكل أساس هويتنا و نواة وجودنا، هو الإرادة حسب شوبنهاور هو الإرادة. إنها إرادة الحياة التي تظل ثابتة و تشكل الذات الحقيقية المحركة لوعينا.

2)أطروحة التصور العلمي (السيكولوجي و السوسيولوجي).
ضدا على التصور الفلسفي الماهوي، يرفض التصور العلمي القول بوجود "أنا" كجوهر ماهوي ثابت يحيل على هوية الشخص. في هذا السياق و من منظور سيكولوجي، يؤكد جول لاشوليي على أن فرضية "الأنا" الجوهرية تكذبها مجموعة من الحالات الواقعية: النوم، فقدان الذاكرة، إصابات في الدماغ قد تعطل بعض وظائفه... كل هذه الأمثلة تدفع إلى الشك في وجود "أنا" جوهري ثابت. و يدافع لاشوليي على فرضية مخالفة، تستمد أسسها من المجال العلمي، ت}د على أن الشعور بالهوية يتوقف على آليتين نفسيتين يقومان بمهمة السهر على وحدة الشخص، و بالتالي تبات هويته. أولهما "الطبع" أو السمة العامة للشخصية. و يقصد به المزاج الخاص بكل شخص و الذي يجعله يحافظ على نفس ردود الأفعال اتجاه المنبهات الخارجية. و ثانيهما "الذاكرة" و هي قدرة من القدرات العقلية التي تحفظ و تستحضر الأحداث الماضية. إن "الطبع" تغذية للذكريات التي تنقل الماضي إلى الحاضر، فيبقى الطبع مستمرا و الهوية واحدة و ثابتة.
و من منظور سيكولوجي متمايز، يقدم الطبيب و المحلل النفساني سيغموند فرويد تصورا ديناميا للهوية الشخصية، معتبرا "اللاوعي" الموجه الأساسي "للوعي"، حيث يرى أن "الأنا" لا يعتبر سيدا في عقر داره، لأنه خادم لأسياد ثلاث هم: الأنا الأعلى – الهو – الواقع. إذن فالهوية الشخصية حسب فرويد تقوم على الصراع و التناقض بين مكوناتها و ليس على التطابق. مما يؤدي إلى هدم و تقويض مركزية "الأنا" و تفكيك تطابقه مع ذاته، بجعله للنفسي و البيولوجي من جهة، و خاضعا للثقافي/القيمي و إكراهات الواقع من جهة أخرى.
و في نفس السياق العلمي نجد الموقف السوسيولوجي يؤكد على أهمية الدور الثقافي/ الاجتماعي في تحديد الهوية الشخصية. و ذلك بالحديث عن " هوية شخصية جماعية" تذوب فيها "الهوية الشخصية الفردية". كما ذهب إلى ذلك رالف لينتون الذي يعتبر أن الهوية الشخصية تتحدد انطلاقا من النظام القيمي و الأخلاقي، و من النموذج الثقافي للمجتمع. 

3)استخلاص.
يتضح من خلال محاولتنا مقاربة الإجابة عن السؤال الإشكالي الذي يتعلق بأساس الهوية الشخصية،إن كان الوحدة و التطابق أم التغير و التعدد، أن معالجة الأسئلة الإشكالية تطرح صعوبات كبيرة، نظرا لتضارب الأطروحات و المواقف الصادرة عن الفلسفة و عن العلوم الإنسانية. فبينما تحافظ الفلسفة الماهوية على مقومات"الأنا" كذات واعية و عاقلة، و ترى في الهوية الشخصي وحدة و تطبقا للذات مع ذاتها، نجد أن أطروحة العلوم الإنسانية تجرد الشخص من خصائص "الأنا" و تجعل منه تابعا و خاضعا لشروط و متغيرات نفسية و ثقافية. 
و على العموم فالشخص يمتلك هوية شخصية تجعل منه ذاتا تعي ذاتها باستمرار داخل وحدة صورية، كما تعي تميزها عن الأغيار، على تضارب و تعدد الأسس و المبادئ التي تقوم عليها هذه الهوية.

II- الشخص بوصفه قيمة.
يتحدد الشخص في السياق الفلسفي بكونه ذاتا مفكرة، عاقلة واعية قوامها "الأنا" الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت. و يتحدد في السياق العلمي (العلوم الإنسانية) كبنية نفسية و اجتماعية. و إلى جانب هذين التحديدين نجد تعريفا عمليا للشخص يحمل بعدا أخلاقيا. حيث يحدد الشخص في هذا السياق بكونه الفرد الذي تنسب له مسؤولية أقواله و أفعاله. كما أنه يعتبر قيمة في ذاته، عندما ينظر إليه كذات واعية حرة و مسؤولة، لها كرامة و قيمة. 
إشكال المحور: فمن أين أين يستمد الشخص قيمته؟ بأي معنى يمكن القول بأن الإنسان يمتلك قيمة؟ كيف تتحدد قيمة الشخص أخلاقيا؟ هل تكمن في كونه غاية في حد ذاته أم في كونه مجرد وسيلة؟ هل تتمثل هذه القيمة في وجوده الفردي المنعزل أم بالمشاركة و التضامن مع الغير؟ هل الشخص قيمة أخلاقية مطلقة أم قيمة قانونية و حقوقية نسبية؟

1)أطروحة إيمانويل كانط.
يعمل التصور الكانطي على فحص البعد الأخلاقي في الإنسان. عن طريق تحرير العقل العملي الأخلاقي مقابل إقراره بمحدودية العقل العلمي الخالص. إن البعد الأول يعتبر الشخص بموجبه حرا و ذو كرامة، إذا ما تحققت فيه ثلاث خصوصيات:
*أن يمارس الشخص الفعل الأخلاقي عن واجب و ليس وفقا للواجب. أي كاقتناع ذاتي و ليس خوفا من العقاب.
*أن يمارس الشخص الواجب لذاته، أي كفضيلة تسمو بالشخص و بالبشرية جمعاء. لا يمارسه كوسائل لتحقيق المنافع.
*الواجب الأخلاقي ذو خاصية كونية و معايير الحكم عليه ثابتة عبر الزمان و المكان.
و بهذه الخصائص يكون للشخص في فلسفة كانط قيمة مطلقة، و يوجد كغاية في ذاته. فالشخص الإنساني ليس شيئا كي نعامله كمجرد وسيلة، و ليس بضاعة تقوم بسعر أو بثمن. بل إنه ذات لعقل عملي أخلاقي، تمتلك قيمة سامية، لا تقدر بسعر، إنها الكرامة الإنسانية التي ينبغي احترامها لذاتها. و يتجلى الاحترام المطلق "عند كانط" للشخص من خلال امتثاله للأوامر الكونية و المطلقة:" تصرف دائما بشكل تعامل بموجبه الإنسانية في شخص غيرك مثلما في شخصك. باعتبارها غاية لا وسيلة" فحينما نعترف للشخص بقيمة و كرامة مطلقتين، فهذا يعني تجاوز كون الشخص ذاتا لها حقوق و عليها واجبات (أي له قيمة حقوقية و قانونية) إلى التأكيد على أنه ذات (غاية مطلقة) تستوجب منا الاحترام و الحماية. 

2)أطروحة هيجل.
يرى هيجل أن قيمة الشخص الأخلاقية لا يمكن أن تتحقق إلا داخل الجماعة. فكل شخص ، حسب هيجلن عليه الالتزام بواجباته و القيام بدوره و المهام التي أسندت إليه، انطلاقا من المكانة التي يحتلها داخل الجماعة. فهيجل بتصوره هذا يدعو إلى الانفتاح على الآخرين و على الواقع، من خلال علاقة جدلية أساسها التأثير التأثر. و معيارها يكمن في السلوك الأخلاقي الذي يصدر عن شخص امتثالا للواجب الأخلاقي. فالشخص، إذن، يكتسب قيمته الأخلاقية عندما يعي ذاته و حريته و يصبح مساهما و مشاركا و منخرطا في الروح العامة لشعبه التي تتجلى في حضارته بكل قيمها و فنونها و مؤسساتها. و تجدر الإشارة إلى أن هيجل يقلص من دور الشخص الفرد، بل و من دور الإنسانية جمعاء في التاريخ. خاصة عندما يعتبر الذات الحرة و الصانعة للتاريخ، ليست هي الذات الفردية و لا حتى مجموع الذوات الإنسانية، بل هي الذات الكونية التي يسميها "الفكرة المطلقة" أو "الروح الموضوعي" و بذلك يكون وجود الشخص الإنساني وجودا ثانويا ملحقا بوجود آخر مطلق و مثالي. 

3)أطروحة جورج غوسدورف.
ينطلق غوسدورف من منظور عملي واقعي، يرى بموجبه أن الشخص الأخلاقي لا يتحقق بالعزلة و التعارض مع الآخرين، بل بالانفتاح عليهم و تضامنه معهم. و في هذا يقول: "الشخص الأخلاقي لا يوجد إلا بالمشاركة. إنه ينفتح بذاته على الكون و يستقبل الغير" و بناء على هذا التحديد يميز غوسدورف بين الفرد و الشخص: فالفرد هو من يضع نفسه في تعارض مع الآخرين، بل في مقابل العالم و يتصور ذاته كبداية مطلقة. أما الشخص فهو من يدرك أنه لايوجد إلا بالمشاركة. و تبعا لذلك يرى أن قيمة الشخص تتحدد من خلال انفتاحه على الآخرين. و في أشكال التضامن الاجتماعي الإنساني لا في مجال الوجود الفردي المنعزل. 

4)أطروحة جون راولز.
جون راولز فيلسوف أمريكي معاصر، شكل كتابه "نظرية العدالة" مثار جدل واسع في الأوساط الفكرية و السياسية. تقوم فلسفته على تصور مثالي للفلسفة السياسية في المجتمع الليبرالي. فهو يعمل على ردم الهوة بين الحرية و اللامساواة، كمحاولة للحد من تناقضات النظام السياسي اللبرالي. و ذلك باعتماد مبدأي التوحيد و التفريق:
*كل الناس أحرار (الحرية) و لهم الحق في النسق الموسع للحريات الأساسية بالتساوي (المساواة).
*من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسع للحريات فوارق اجتماعية و اقتصادية هائلة بين الناس(اللامساواة). شريطة أن تنظم هذه اللامساواة على الشكل التالي:
أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا، أي ضحايا النظام الرأسمالي. و أن تنبع من مبدأ تكافؤ الفرص في الوظائف و التعويضات.
إن راولز يناقش قيمة الشخص في إطار فلسفته التي تقوم على العدالة كإنصاف. و تجعل متنافسين فيما بينهم على قاعدة الندية و المساواة. كما تجعلهم مترابطين على قاعدة التعاون الاجتماعي. إن هذا التصور الاجتماعي و القانوني للشخص يجعل منه قيمة، ككائن ممارس للعدالة المنصفة و للخير بمعناه الأوسع، أي كل ما يمثل قيمة إنسانية سامية. 

5)استخلاص.
بناء على ما سبق، يمكن التأكيد على أن الفكر الفلسفي على العموم، يعلي من قيمة الإنسان/الشخص. و من تمة اعتباره قيمة في ذاته بوصفه وعيا و إرادة تتطلع إلى ما هو أسمى. و عدم اعتباره وسيلة لتحقيق حاجات و منافع.إنه قيمة أخلاقية عليا تأخذ معناها من الأمر الأخلاقي العملي، الذي يجعل الشخص موضع احترام مطلق. و تزداد قيمته بامتثاله للواجب و انفتاحه على الآخرين.
إن الإعلاء من قيمة الشخص، كذات واعية و مريدة، و تمثل غاية في ذاتها، يدفعنا إلى التساؤل عن مدى تمسك الإنسان بحريته و كرامته، و دفاعه عن حقوقه الأخلاقية و الاجتماعية، أمام قوة الإكراهات و الضغوطات التي تواجهه. 


III- الشخص بين الضرورة و الحرية.
أن يكون الشخص حجرا يعني أن يكون قادرا على القيام بأفعاله بإرادته، دون منع أو إكراه. و أن يعبر عن أفكاره دون خوف. و أن يكون قادرا على الاختيار بين الفعل و عدمه. غير أن الشخص، و في علاقته بالجماعة و بالآخرين، يتعرض وجوده لنوع من الاستلاب،ه أو التشييء. بسبب الضرورات التي يفرضها المجتمع على أفراده. حيث يبدو الفرد سجين منظومة من القيم و العلاقات التي تحد من آفاقه و تطلعاته الفردية. 
إشكال المحور: هل الشخص ذات حرة فيما يصدر عنها من أفعال أم أن هناك حتميات تشرط حريته؟ أليس هناك مكان للحرية في حياة الشخص؟ أم أن حريته في حدود ما يخحتاره؟

1)أطروحة العلوم الإنسانية (الخضوع التام، انتفاء الحرية). 
تنظر العلوم الإنسانية إلى الذات باعتبارها "شخصية" تقوم على بنية "سيكوفيزيولوجية" و كائن "سوسيو-ثقافي" و بذلك لا يمكنه الانفلات من قوانين الفيزيولوجيا و المحددات النفسية و الإشراطات السوسيو-ثقافية. إن تجاهل هذه الإكراهات هو ما يجعل الإنسان يعتقد بأنه يمتلك إرادة و حرية. 
ينظر بعض السوسيولوجيين إلى الشخصية الفردية على أنها انعكاس للشخصية الأساسية أو الوظيفية لجماعة الانتماء. و هي بذلك سوسيولوجيا عبر قنوات التنشئة الاجتماعية. 
و في نفس السياق ، و من منظور سيكولوجي، تذهب المدرسة السلوكية إلى اعتبار الشخصية بمثابة حصيلة لمجموعة من الاستجابات، ترسخت كردود أفعال على مثيرات خارجية، تعمل على كبح أو تشجيع بنيات نفسية معينة. و كذلك تعتبر مدرسة التحليل النفسي الشخصية خاضعة لإكراهات لاشعورية، تتشكل في مرحلة الطفولة –على الخصوص- و بذلك يقلص فرويد من فعالية الذات/الأنا (التي كانت واعية و حرة في التراث الفلسفي) و تعتبرها خاضعة لعمليات نفسية لاشعورية تحد من حرية الشخص الإنساني.
إذن ف "الأنا" خاضع (ليس حرا) لدوافع "الهو" الجنسية و العدوانية. 

2)أطروحة الفلسفة الماهوية (الحتمية، الحرية المشروطة).
تنظر هذه الفلسفة إلى الشخص بكونه خاضع لعدة حتميات، لا مناص منها، تشرط وجوده. و عدم تمييزها بوضوح، و عدم وعيه بها، هو ما يوهمه بأنه حر.
في هذا السياق نجد اسبينوزا يؤكد في كتابه "الأخلاق" أنه لا وجود لجوهر آخر غير الله في الطبيعة. و ما عداه هو صفة للجوهر الأوحد (الله). أي أن الله هو "الطبيعة الطابعة" بمعنى الخالقة، من حيث هو مصدر الصفات و الأحوال. و هو "الطبيعة المطبوعة" أي المخلوقة من حيث هو هذه الصفات نفسها. و هذا هو مذهب الحلول الذي قال به اسبينوزا. أي أن العلة و المعلول من نوع واحد، و أن الكل واحد و ضروري. و قد تجاوز بذلك ثنائية الله و العالم (ديكارت) و ثنائية النفس و الجسد.و على هذا الأساس فالكل يصدر عن طبيعة الله بمقتضى ضرورة لا مفر منها. أي أن كل الأحداث تخضع لحتميات دقيقة. و من جهة أخرى فالله لا يخضع لأي حتمية، فهو الكائن الأكثر كمالا و قوة. لذلك فالاختيار الحر بالنسبة للإنسان مجرد وهم ناتج عن تصور و وعي بالفعل الإرادي و جهل بالأسباب التي تحتم علينا أفعالنا. كما يظن الطفل الخائف أنه حر في الهروب. لذلك فلا وجود ن حسب اسبينوزا لحرية إنسانية خارج الحتمية الطبيعية. حيث أنها لا تطرح بمعنى الاستعباد. و على العكس، فالاستعباد ليس إلا جهلا بالحتمية الطبيعية، و الخضوع لحتميات خارجية. إذ لا تعارض بين الحتمية و الحرية عند اسبينوزا. و الحرية ليست سلبا أو نفيا للحتمية الطبيعية. فلا حرية إنسانية خارج ما هو طبيعة إنسانية.
و يرى الفيلسوف ذو النزعة الشخصانية، إيمانويل مونيي، أن الشخص يستطيع أن يمتلك حريته و ينعتق من الضرورات البيولوجية و الحتميات الطبيعية. إلا أن حريته تبقى مشروطة بوضعه الواقعي، و لا تتحدد إلا عندما يتجه الإنسان نحو التحرر في إطار التشخصن. أي الخروج بالذات من عزلتها و انفتاحها على جماعة إنسانية، تقوم بحماية ميولات الأشخاص. و من ثم ، فإن معرفة الشخص لذاته تتأسس على إدراك الشخص لميولاته، كوسيلة لتحقيق حريته. و يؤكد مونيي على من مهام المجتمع مساعدة الأشخاص للتعرف على ميولاتهم بكامل حريتهم الروحية. و كذلك توفير الوسائل المادية الضرورية لتنمية هذه الميولات. بحيث أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقرر مصيره في حدود ما يوفره مجتمعه من اختيارات.

3)أطروحة الفلسفة الوجودية (الحرية المطلقة).
ضدا على مواقف الحتمية و الخضوع التام، نجد المواقف الإرادوية تؤكد على أهمية الوعي و الحرية في الوجود الإنساني. و في هذا السياق تعلن الفلسفة الوجودية عن ميلاد إنسان جديد. حيث أن جون بول سارتر يعتبر الخضوع للأدوار السوسيو_ثقافية رهنا لحريتنا و تنازلا عن الشخص فينا. في حين أن الإنسان مشروع حر و مفتوح على إمكانات لا نهائية. و يقصد بذلك أنه يتعالى على شروط وجوده بشكل مستمر، و دائم التجاوز لوضعيته بواسطة الأفعال التي يقوم بها. إنه يقذف بنفسه نحو ما ليس هنا_الآن، أي نحو المستقبل، لأنه لا يريد أن يكون وجوده نهائيا ثابتا. لذا فهو إمكانية مستقبلية دائمة البحث عن علاقات جديدة في ظل واقع جديد أفضل، لأنه لا يقبل الخضوع.و هذا هو دليل حريته. إن تصور جون بول سارتر يندرج ضمن موقف الفلسفة الوجودية. و هي فلسفة معاصرة أخلاقية بالدرجة الأولى، ترى أنه لا توجد ماهية ثابتة للطبيعة البشرية يشترك فيها الناس جميعا. بل كل شخص يخلق ماهيته الخاصة أو شخصيته عن طريق اختياراته و اهتماماته و أفعاله. "فالوجود سابق عن الماهية" أي أن الإنسان يوجد أولا، و يلاقي ذاته في الوجود و هو لاشيء، و يتحدد فيما بعد انطلاقا من أفعاله و اختياراته. فالحرية اختيار و مسؤولية أمام الذات و العالم. أي أن الإنسان مسؤول عن وجوده و عن اختياراته و عن ذاته. إن اختيار الإنسان لذاته هو اختيار للآخرين، و هو اختيار خير دائما.إن ماهية الإنسان _إن وجدت_ هي حريته. و الحرية عند سارتر ذاتية نابعة من شعور الفرد و مطلقة، يقول في هدا الصدد "إن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا، و لا يمكنه أن يرفض هذه الحرية، لأنها حرية مطلقة"
إن تصور سارتر تعبير أصيل عن التصورات الفلسفية التي تعلي من شأن ذات الشخص، و تجعل منه كائنا متحررا من كل ضرورة. سواء كانت طبيعية أو ثقافية، وراثية أم مكتسبة... و تميزه كوجود ذاتي، ذي وعي و إرادة و حرية و قدرة على الاختيار و تحمل المسؤولية.
4) استخلاص.
انطلاقا من المواقف الفلسفية و العلمية التي ناقشت الحرية الإنسانية، ما بين الخضوع التام و الحرية المطلقة أو الحتمية المشروطة، يتضح أن الإشكالية مستمرة و تطرح أكثر من مفارقة و إحراج. حيث أنه من العسير التوفيق بين الحرية و الضرورة، كمفهومين متقابلين. و لكن إذا تناولناهما كمفهومين متكاملين، تغدو الضرورة مواكبة للحرية و شرطها المسبق.
و في هذا السياق تؤاخذ الماركسية على وجودية سارتر كونها تجعل من الحرية قدرة ذاتية تملي الاختيار، بدلا من دمجها في الصيرورة التاريخية. لتجعل قدرة و فعالية لبلوغ الهدف. فالناس يجعلون أنفسهم أحرارا في السعي إلى غايات أرادوها، فبقدر ما يكتسب الناس معرفة بقوانين الطبيعة و المجتمع، بقدر ما يستخدمونها لتحقيق حريتهم. و منه فالحرية ليست هي الانفلات من الضرورة و نفيها، بل فهمها و اتخاذ القرار و الاختيار في ضوء الفهم الواقعي لما يفعلونه. فالفرد لا يحقق حريته حسب ماركس إلا في المجتمع، و وسيلته إليها (الحرية) المعرفة و الفعل (الشغل) المتعالي على عمليات التشييء و الاستلاب. و لتحقيق وجوده كشخص عاقل و مريد و مسؤول عن أفعاله، و منفتح على الغير، و مشارك في تحقيق الأهداف الإنسانية المشتركة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق