الاثنين، 16 يونيو 2014

الحق والعدالة

الحق والعدالة


*تقديم: 
يحدد لالاند الحق على أساس أنه"ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، يعني ما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي"، على حين أنه يحدد العدالة بكونها تشير إلى "سمة ما هو عدل وعادل، وصفة من يكون عادلا، وكل فعل أو قرار يستعمل لفرض العدالة، والسلطة القضائية".
ويطرح مفهوما الحق والعدالة إشكالية فلسفية تترجمها التساؤلات التالية: هل يقوم الحق على الطبيعة أم على الثقافة؟ كيف يمكن للحق أن يتحقق على أرض الواقع عل نحو عادل؟ هل العدالة مساواة أم إنصاف؟
*المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي:
*إشكال المحور: ينتمي الإنسان من ناحية إلى الطبيعة بوصفه عضوية ذات حاجيات وغرائز، وينتمي من ناحية أخرى إلى الثقافة بوصفه ذاتا عاقلة تتعايش مع الآخرين، وتخضع لقوانين عامة. وبالنظر إلى هذا الانتماء يمكن التساؤل عن الأساس الذي يقوم عليه الحق: هل يتأسس على ما هو طبيعي في الإنسان كالشهوة والقوة؟ أم يتأسس على ما هو ثقافي كالعقل والنزوع إلى التعايش مع الآخرين؟
1/موقف توماس هوبز: يرجع الفيلسوف الإنجليزي هوبز أساس الحق إلى الطبيعة، فيتحدث عن حق طبيعي مارسه الإنسان في حالة الطبيعة حيث عاش بدون دولة ولا نظام اجتماعي. ويعرف هوبز الحق الطبيعي بأنه "الحرية الممنوحة لكل إنسان لاستخدام قواه الخاصة من أجل المحافظة على طبيعته الخاصة أو على حياته الخاصة، وبالتالي حريته في أن يفعل أي شيء يبدو له حسب تفكيره وعقله الخاص أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض". واستنادا إلى هذا التعريف استخلص هوبز أربعة حقوق طبيعية للإنسان هي: حق البقاء، حق استخدام كافة الوسائل المؤمنة للبقاء، حق تقرير أنواع الوسائل الضرورية للحفاظ على الحياة وتقدير حجم الخطر، ثم حق وضع اليد على كل ما تصل إليه.
إلا أن الحق الطبيعي يجعل الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، ويحوّل وجود الناس إلى حرب الكل ضد الكل. فما دام الأفراد يعيشون في حالة الطبيعة بلا قيود ولا ضوابط، وما دام الحق الطبيعي يعني حرية كل فرد في فعل ما يستجيب لطبيعته الخاصة، فإن ذلك يفضي إلى تضارب مصالح الأفراد وسيادة الصراع بينهم. ومن ثم فإن حالة الطبيعة شكلت تهديدا لحياة الإنسان، مما دعا إلى ضرورة تنازل الناس عن حقوقهم الطبيعية لشخص واحد يسمى الأمير، وهو حاكم مطلق يتولى مهمة حماية مصالح الناس والدفاع عنها تبعا لما يراه مناسبا وناجعا.
2/موقف جون جاك روسو:
إذا كان هوبز يؤسس الحق على ما هو طبيعي، فإن الفيلسوف الفرنسي روسو يحدد الحق على أساس مزدوج يتضافر فيه الطبيعي والثقافي. ذلك أنه ينظر إلى الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا اجتماعيا، فهو محكوم من جهة بغرائز الطبيعة، لكنه يتميز من جهة أخرى بميولات اجتماعية تدفعه إلى التعايش مع الآخرين، والانخراط في علاقات تنظمها القوانين المشروعة. ومن هذا المنظور انتقد روسو حق القوة، أي الحق القائم على القوة، لأنه حق زائف، ما دامت القوة قدرة فيزيائية مجردة من كل مبدأ أخلاقي، فهي تلغي حرية الأفراد في اختيار من يمثل إرادتهم، وتفرض عليهم الامتثال لصاحبها بحكم الضرورة والإجبار، فلا تكون طاعتهم مقترنة بالواجب، بقدر ما تكون نتاجا للخوف والحذر. ويترتب عن ذلك عجز حق القوة عن تحقيق الدوام والاستقرار، فهو يزول بزوال القوة التي أسسته. وفي مقابل الحق الطبيعي، يقدم جون جاك روسو "الحق المدني" باعتباره حقا يتأسس على فكرة العقد الاجتماعي. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل هو في حاجة إلى الاجتماع مع غيره من البشر، ومادامت إرادات الناس تتسم بالاختلاف والتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم إلا إذا قام على تعاقد فيما بينهم، يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن جميع حقوقه للإرادة العامة التي تمثلها الدولة باعتبارها شخصا معنويا ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم. وبذلك تتحول الحقوق الطبيعية للإنسان إلى حقوق مدنية وتبقى الحرية والمساواة هي جوهر هذه الحقوق.
*خلاصة المحور:
انطلاقا مما تقدم نخلص إلى أن مساءلة أساس الحق تضعنا أمام موقفين مختلفين: أحدهما يرجع أساس الحق إلى ما هو طبيعي، والآخر يرجعه إلى ما هو طبيعي ثقافي.
*المحور الثاني: العدالة كأساس للحق:
*إشكال المحور: إن اعتبار العدالة أساسا للحق يدفعنا إلى إثارة التساؤل التالي: كيف يكون الحق عادلا؟ هل تتحقق عدالة الحق بارتباطه بسلطة القانون ومؤسساته، أم بارتباطه بسلطة العقل والأخلاق؟
1*مقاربة الإشكال:
/موقف آلان: يعتبر الفيلسوف الفرنسي المعاصر آلان أن الحق لا يكون حقا بالفعل إلا إذا تم الاعتراف به من طرف السلطة القائمة. فعدالة الحق ترتبط بضرورة التصريح به وإعلانه حتى تكون له قيمة حقة، ولا يمكن التصريح بالحق إلا إذا وافقت عليه سلطة حكم وأعلنته على رؤوس الملأ. أما إذا لم يُعترف بالحق " فإنه لا وجود البتة إلا للوضع الذي يفرضه الواقع، وهو وضع يبقى الحق إزاءه معلقا". وتوضيحا لهذه الفكرة يضيف آلان مستثمرا المثال: "إن حيازة ساعة ووجودها في الجيب ومعرفة الوقت بها ليست سوى أمور من قبيل الأمر الواقع، أما الحق في امتلاك الساعة فأمر مختلف تماما. إذ ان المطالبة بهذا الحق تعني الالتجاء إلى الحكم عبر مقاضاة يشهدها العموم، وتعني المرافعة ومحاولة الإقناع". يظهر، إذن، أن آلان يميز بين الحق والأمر الواقع: الأول يتعلق بكل أمر نحوزه أو نتصرف فيه طبقا لاعتراف السلطات الحاكمة، والثاني يتعلق بكل أمر نفرضه بالقوة دون التوفر على هذا الاعتراف. هكذا تبقى عدالة الحق مشروطة بالقانون ومؤسساته.
2/موقف شيشرون: في مقابل آلان، يعيد المشرّع الروماني شيشرون النظر في علاقة الحق بالسلطة ممثلة في القوانين والمؤسسات، فهو يعتقد أنه "لا يوجد عبث أكبر من الاعتقاد بأن كل ما هو منظم بواسطة المؤسسات أو قوانين الشعوب عادل". فلو افترضنا أن طاغية فرض على شعب مجموعة من القوانين، فإنه من غير المعقول اعتبار هذه القوانين عادلة. إن الحق الوحيد، بالتالي، هو ذلك الذي يؤسسه قانون واحد يشرع تبعا لمقتضيات العقل القويم ما يلزم أو يُمنع فعله، وهذا القانون سواء كان مكتوبا أم غير مكتوب فإنه يسري على كل فرد، ومن يجهله يعتبر ظالما.
وفي ضوء هذا التصور لن تتأسس العدالة على المنفعة، وإنما على الطبيعة(العقل)، لأن المنفعة تتغير من شخص لآخر، بحيث ان كل فرد تعارضت مصلحته مع القوانين سيعمل على انتهاك هذه القوانين، بينما لو تم الاعتماد على مقتضيات العقل في تحديد ما هو حق فإن العدالة ستسود بين الناس. يقول شيشرون بهذا الصدد " فلكي نميز قانونا حسنا عن آخر قبيح، لا نتوفر على قاعدة غير الطبيعة[العقل]. والطبيعة لا تمكننا فقط من التمييز بين الحق والظلم، وإنما تمكننا كذلك من التمييز بين الأشياء الحسنة والأشياء القبيحة من الناحية الأخلاقية بصفة عامة".
*خلاصة المحور:
يتبين مما سبق أن التساؤل عن العدالة كأساس للحق يسمح بالتمييز بين موقفين متعارضين: الأول يربط عدالة الحق بالسلطة (القانون والمؤسسات)، والثاني يربطها بالطبيعة(العقل).
*المحور الثالث: العدالة بين الإنصاف والمساواة:
*إشكال المحور: هل العدالة إنصاف أم مساواة؟ هل يجب على العدالة أن تساوي بين الناس، أم تعطي لكل ذي حق حقه؟
*مقاربة الإشكال:
1/ موقف ج.راولز: يعتبر الفيلسوف الأمريكي المعاصر راولز أن نظرية العدالة كإنصاف تنطلق من فكرة وجوب النظر إلى المجتمع كنظام للتعاون المنصف. ومعنى ذلك أن المجتمع نسيج يتكون من مواطنين يتمتعون بالحرية والندّية، ويتميزون بحب العدالة والخير، ويسعون، في ظل تعاون مثمر بينهم، إلى تحقيق الغايات التي ينشدونها. وفي هذا الإطار، يقتضي تحقيق العدالة كإنصاف في المجتمع مراعاة مبدأين أساسيين:
- المبدأ الأول يتمثل في المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات الأساسية. فمن حق كل الأفراد أن يستفيدوا بالتساوي من نفس الحقوق، كما عليهم أن يخضعوا لنفس الواجبات.
- المبدأ الثاني: يتمثل في اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثروة والسلطة. ويعني هذا المبدأ عدم وضع عوائق أمام أولئك الذين، بحكم مواهبهم الطبيعية أو ظروفهم، يوجدون في وضع أحسن من غيرهم. لكن هذه اللامساواة لا تكون عادلة إلا إذا تم تعويض أفراد المجتمع الأقل حظا باستفادتهم من تلك الثروة والسلطة.
2/موقف ماكس شيلر: انسجاما مع مبدأ اللامساواة عند راولز، يرى الفيلسوف الألماني ماكس شيلر أن العدالة المنصفة هي العدالة التي تراعي اختلافات الناس وتمايز طبائعهم وقدراتهم واستعداداتهم. ذلك أن العدالة لا تتنافى مع بروز أشكال مختلفة من التفاوت الفكري والاجتماعي والاقتصادي، فالناس يتفاوتون تفاوتا إيجابيا خلاقا، ومن الظلم الإقرار بتساويهم المطلق. وإذا كان هناك من يدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس، فإنه لا يصدر إلا عن الكراهية والحقد، سواء استند إلى الأمر الواقع أم إلى الضرورة الأخلاقية. إذ "يبدو واضحا أن وراء هذه المساواة المنشودة تتستر دائما الرغبة الوحيدة في خفض الأشخاص المعتبرين أكبر وأعظم من غيرهم، إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل درجات السلم. فما من أحد ينشد المساواة حينما يشعر بأنه يمتلك قوة أو نعمة، تتيح له أن يتفوق في أي مجال كان".
*خلاصة المحور: تأسيسا على ما تقدم، يظهر أن العدالة لا تكون منصفة إلا إذا ساوت بين الناس على صعيد الحقوق والواجبات، ووضعت بعين الاعتبار اختلافاتهم على الصعيد الفكري والاجتماعي والاقتصادي. 



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق