الثلاثاء، 28 يناير 2014

المعرفة التاريخية:


تقديم:
يمكن التمييز، في المعجم العربي، بين التأريخ الذي هو علم التاريخ، أي دراسة الماضي، والتاريخ الذي هو الماضي ذاته. وتتحدد الدلالة الفلسفية لمفهوم التاريخ، حسب لالاند، في المعاني التالية:
- معرفة ما هو جزئي استنادا إلى وسيلة أساسية هي الذاكرة.
- معرفة مختلف المراحل التي اجتازها، في الماضي، موضوع من مواضيع المعرفة ( شعب، مؤسسة، علم، لغة...).
- تعاقب المراحل أو الحقب التي مرت منها البشرية.
في ضوء ما سبق، يمكن أن نستخلص أن التاريخ يحيل على معنيين رئيسيين. فهو يشير من جهة إلى الواقع الإنساني الذي حدث في الزمن الماضي، ويشير من جهة أخرى إلى العلم أو المعرفة التي تختص بدراسة هذا الواقع الماضي. ومن ثم تتضح علاقة الإنسان بالتاريخ، سواء كواقع مضى أو كمعرفة بهذا الواقع. فالإنسان كائن تاريخي تمتد تجربته في الماضي متخذة شكل أحداث وإنجازات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية...، وهو يسعى إلى تمثل ماضيه وإدراكه على حقيقته ليفهم الحاضر ويستشرف المستقبل. لكن إذا كان هذا الماضي ينتمي إلى الزمن الذي انقضى، فهل يمكن تدوينه واستعادته برؤية موضوعية؟ وإذا كانت حركة التاريخ عبارة عن تقدم، فما طبيعة هذا التقدم؟ هل يتجه في خط منتظم متصل، أم في خط يتسم بالانقطاع وعدم الاستمرارية؟ وهل للإنسان دور في صنع التاريخ والتأثير في مسار أحداثه؟
І/ المعرفة التاريخية:
*إشكال المحور: إذا كان الإنسان يطمح إلى معرفة تاريخه، فهل يمكن تحقيق معرفة موضوعية بالماضي الإنساني؟ بأي معنى تكون المعرفة التاريخية ممكنة؟ وما حدودها؟
*مقاربة الإشكال:
1/ موقف هنري ماروMarrou:
يقدم مارو أطروحة تقر بإمكانية المعرفة التاريخية على أساس أنها معرفة علمية بالماضي الإنساني. ذلك أنه ينطلق من تحديد معنى التاريخ باعتباره معرفة الماضي الإنساني، نافيا كونه سردا لحوادث الماضي أو عملا أدبيا يعيد كتابة ذلك الماضي. إلا أنه لا يلغي ارتباط التاريخ بالكتابة، وإنما يؤكد على أن كتابة الماضي الإنساني عمل لا يتم إلا بعد بناء هذا الماضي في ذهن المؤرخ بصورة مكتملة.
ومن جهة أخرى، ينفي مارو أن يكون التاريخ بحثا من أجل البحث ذاته أو دراسة مطلوبة لذاتها، فهو معرفة تتوخى تحقيق نتيجة محددة، لأنه محكوم بالحقيقة التي يسعى المؤرخ إلى إنشائها وتكوينها. ويخلص من ذلك إلى اعتبار التاريخ معرفة يكونها المؤرخ عن الماضي، الشيء الذي يضع التاريخ في تعارض مع كل الممارسات التي تقدم صورة زائفة عن الماضي كالأسطورة والرواية التاريخية والقصص التربوية. وبذلك فإن المعرفة التاريخية تقدم حقيقة تستند إلى منهج علمي صارم.
على ضوء ما سبق، يظهر أن مارو يضفي مشروعية على المعرفة التاريخية من منطلق كونها معرفة علمية بالماضي. فتاريخ الإنسان كمجموعة من الوقائع والأحداث الماضية ليس مستعصيا على الفهم والتمثل العلميين، بل إنه يقبل أن يكون موضوعا لمعرفة علمية مبنية على منهج منظم ودقيق.
2/ موقف ريمون أرونAron:
إذا كان مارو يجزم بعلمية المعرفة التاريخية بحيث يستطيع المؤرخ بناء حقيقة الماضي بموضوعية، فإن ريمون أرون يرى أن المعرفة التاريخية تبقى موسومة بالنقص والمحدودية. فهذه المعرفة تعني: « إعادة بناء ما كان موجودا ولم يعد، انطلاقا مما بقي كأثر». إنها تستند إلى ما خلفه السابقون من آثار، في زمان ومكان محددين، لتعيد بناء ما عاشوه من تجربة. لكن هذه المعرفة لا ترقى إلى مستوى معرفتنا بالحاضر الذي نعيشه، لأنها معرفة غير مباشرة، تفتقد المعايشة التلقائية. فالعالم الذي نمارس فيه حياتنا راهنا، يعتبر مفهوما وواضحا وأليفا بالنسبة إلينا، فهو مليء بالدلالات التي نستطيع فهمها وتمثلها بكل يسر وتلقائية. من ثم فإننا نمتلك عنه معرفة عفوية، فنحن نعرفه بطريقة مباشرة. أما إذا انتقلنا إلى عالم انطوى في الماضي، كعالم روما في القرن الثاني بعد الميلاد، أو عالم أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، فإن الكثير من الأفكار والسلوكات والممارسات لن يكون مفهوما من طرفنا. يقول أرون بهذا المعنى: « إن هذه المعرفة الشائعة بيننا عندما يتعلق الأمر"بالعالم الذي يحيط بنا" هي التي نريد الحصول عليها عندما يتعلق الأمر بمعرفة"عالم الذين عاشوا قبلنا". وهذا ما ينقصنا إلى الأبد عندما نريد إعادة بناء عالم الماضي». وهكذا ينتهي أرون إلى الاعتراف بمحدودية المعرفة التاريخية، مادامت عاجزة عن تقديم صورة دقيقة تتطابق مع ما حدث في الماضي أو مع عالم الذين عاشوا قبلنا.
*خلاصة المحور:
تأسيسا على ماتقدم، يتضح أن إشكال المعرفة التاريخية يقودنا إلى موقفين متقابلين:
- موقف يقر بإمكانية معرفة الماضي الإنساني بشكل علمي موضوعي، اعتمادا على منهج علمي صارم.
- موقف آخر يعترف بإمكانية معرفة الماضي الإنساني، لكنه يضفي على هذه المعرفة طابع النقص والمحدودية.
П/ التاريخ وفكرة التقدم:
*إشكال المحور: إذا كان التقدم يحيل على معاني النمو والتطور باعتباره سيرا إلى الأمام، فهل يمكن الحديث عن تقدم في التاريخ؟ وما طبيعة هذا التقدم؟ هل هو تقدم متصل يتسلسل في خط تصاعدي، أم هو تقدم منفصل يأخذ شكل قفزات وطفرات؟
*مقاربة الإشكال:
1/ موقف ليفي ستراوسStrauss:
يدافع ستراوس عن أطروحة تعتبر أن تقدم التاريخ يتسم بالانفصال، فهو تقدم عبر طفرات. ولإضفاء المشروعية على هذه الأطروحة، ينطلق ستراوس من التأكيد أن الإنسانية أنجزت أشكالا من التقدم في مسارها التاريخي، لكنه ليس تقدما متسلسلا ومتصلا. وهنا يوجه النقد إلى علماء التاريخ الذين يقسمون التاريخ إلى مجموعة من الحقب المتصلة المتسلسلة. فالخطاطات التي يرسمونها لمسار التاريخ تتصف بالتبسيط والاختزال. ثم يقدم أمثلة تدحض موقف هؤلاء العلماء. فعصر صقل الحجر لم يتولد عن عصر نحت الحجر، ماداما قد تزامنا أحيانا في الوجود. كما أن صناعة الخزف لم تقتصر على عصر صقل الحجر، بل إنها تواجدت في بعض المناطق في عصر نحت الحجر.
ويخلص ستراوس من ذلك إلى أن التاريخ يتقدم، لكن تقدمه ليس خطيا متصلا، ولا يمكن ترتيبه تبعا للزمان وإنما تبعا للمكان. ولذلك فتقدم التاريخ عبارة عن قفزات أو وثبات، فهو لا يمضي على نحو تصاعدي في نفس الاتجاه.
ويضيء ستراوس هذه النتيجة من خلال تشبيه تقدم الإنسانية بلاعب النرد، لا بصاعد السلم. فالإنسانية لا تصعد إلى أعلى في كل خطوة تحققها، بل إنها تحقق مكسبا في خطوة وتمنى بالخسارة في خطوة أخرى. والتقدم ليس سوى حصيلة الكسب والخسارة.

2/ موقف ليبنتسLeibniz: 
إذا كان ستراوس يؤكد أن تقدم التاريخ يتميز بالانفصال، فإن ليبنتس على العكس من ذلك يرى أنه يتسم بالاتصال. ذلك أن مسار التاريخ الإنساني يمضي في خط متسلسل متصل مستهدفا تشييد حضارة راقية. والدليل على ذلك يتمثل في اتساع مظاهر الرقي والازدهار مع مرور الزمن، بحيث ان التقدم يأخذ شكل تراكم متزايد للمكاسب والمنجزات. غير أن هذا التقدم لا يتعارض مع وجود تعثرات طفيفة، لأن الإنسانية لا تجني الفائدة من المكاسب فقط، بل إنها تستفيد أيضا من الخسارة. وإذا كان الإنسان لم يصل بعد إلى تحقيق الازدهار والتطور على نحو كامل، فما ذلك إلا لأن رقعة الحياة الإنسانية تتسع يوما بعد يوم، فتتنوع مجالاتها وتتعدد مستوياتها، بحيث يصعب استيفاء الكمال في كل مناحي الوجود الإنساني. لقد حقق الإنسان درجة عالية من الازدهار في كثير من الميادين، لكن التقدم لا يمكن أن يكون تاما ومكتملا، فهو سيرورة لا متناهية.
*خلاصة المحور:
انطلاقا مما تقدم يظهر أن إشكال طبيعة التقدم في التاريخ تتواجه فيه أطروحتان متناقضتان: إحداهما ترى أن تقدم التاريخ يتميز بالانفصال، والأخرى ترى أنه يتميز بالاتصال.
Ш/ دور الإنسان في التاريخ:
*إشكال المحور: هل التاريخ من صنع الإنسان أم انه نتاج لشروط حتمية؟ بصيغة أخرى، هل يملك الإنسان دورا فاعلا في إحداث وقائع التاريخ وتوجيه مسارها؟
*مقاربة الإشكال:
1/ موقف مكيافيليMachiavel: 
يتبنى مكيافيلي أطروحة تعتبر التاريخ نتاجا للقدر وإرادة الإنسان. وللدفاع عن هذه الأطروحة استهل تصوره بعرض الموقف السائد الذي يلغي دور الإنسان في صنع التاريخ ويرجع الأحداث الدنيوية إلى قوة عمياء لا يقدر الإنسان على مواجهتها، هي القضاء والقدر. لكن مكيافيلي يفند هذا الموقف موضحا أن التغيرات العظيمة التي شهدها عصره لا تعود إلى القدر وحده، بل إنها ترجع أيضا إلى الإرادة الإنسانية. يقول بهذا المعنى: « وفي رأيي أن من الحق أن يعزو الإنسان إلى القدر التحكم في نصف أعمالنا، لكن النصف الآخر أو ما يقرب منه متروك لنا لنتحكم فيه بأنفسنا ». وهنا ينتقل مكيافيلي إلى توظيف التشبيه لإيضاح وجهة نظره، إذ يشبه القدر بالنهر الذي يتميز بطبيعتين: 
- طبيعة هائجة تجعله يتحول إلى ثورة عارمة تغرق السهول وتقتلع الأشجار والأبنية.. إلخ. فيصبح الإنسان في هذه الحالة خاضعا لسطوة النهر، غير قادر على مقاومته. 
- طبيعة هادئة تتيح للإنسان إمكانية العمل والمقاومة، فحين يهدأ هيجان النهر يستطيع الناس اتخاذ الأسباب اللازمة لتحقيق الأمن والحماية، والتحكم في مجرى النهر وتسخيره لصالح الإنسان، كبناء السدود والحواجز والقنوات.
ويخلص مكيافيلي إلى أن التاريخ يكون من صنع القدر حين تتحكم الظروف الطبيعية والمادية في حياة الإنسان، بحيث يقف الناس أمامها دون قدرة على الفعل والمقاومة. لكن التاريخ يكون من صنع الإنسان عندما يستنفر الناس إرادتهم ويعملون على مواجهة القدر وتغيير مساره. 
2/ موقف سارترSartre:
خلافا لأطروحة مكيافيلي، يؤكد سارتر أن الإنسان صانع للتاريخ متى وعى بشروط الفعل. ذلك أن التاريخ هو مجموعة من الأحداث التي تجري داخل شروط موضوعية، والإنسان هو الذي يصنع التاريخ على أساس فهمه وتمثله لهذه الشروط. فسارتر يعترف بوجود البنيات التحتية باعتبارها جملة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية، لكنه لا يقر بإلغاء دور الناس في صنع التاريخ: «إن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم، وليست الشروط الموضوعية السابقة هي التي تصنع التاريخ، وإلا أصبحوا مجرد آلات في يد قوى غير بشرية تتحكم عبرهم في العالم الاجتماعي». ويرجع تأكيد سارتر على الفاعلية الإنسانية إلى خلفية فلسفية تؤمن بأسبقية وجود الإنسان على ماهيته، مما يعني اعتبار الإنسان كائنا يتمتع بالحرية ويستطيع تشكيل ذاته وتاريخه تبعا لوعيه وممارسته. وإذا كان الكائن الإنساني ذاتا حرة، فإنه « يتميز قبل كل شيء بقدرته على تجاوز وضعه، لأنه يستطيع أن يفعل شيئا بما يفعل به». فرغم أن الإنسان محاط بشروط موضوعية، فإنه يملك أن يتجاوزها ليبلور مساره الخاص في التاريخ. إنه قادر بفعل ممارسته ووعيه بهذه الشروط أن ينجز الهدف الذي يمثل اختياره الذاتي. فالإنسان يجد نفسه في الواقع أمام حقل من الممكنات، فيكون بإمكانه اختيار إحداها لتحقيق وجوده وفق إرادته الخاصة وما يتصوره عن نفسه. يقول سارتر بهذا الصدد: «إن الفرد يصنع التاريخ عندما يتجاوز وضعيته نحو حقل ممكناته ويحقق إحداها». 
*خلاصة المحور:
يفضي بنا إشكال دور الإنسان في صنع التاريخ إلى موقفين متعارضين: أحدهما ينسب الأحداث التاريخية إلى القدر والإرادة الإنسانية، والآخر ينسبها إلى الإنسان وحده. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق