الثلاثاء، 28 يناير 2014

النظرية والتجربة



النظرية والتجربة



تـــقـــديـــم
يقصد بالمعرفة كل بناء منهجي يعتمد على قدرات عقلية ومهارات فكرية، ويتم هذا البناء من قبل الذات في علاقتها بالموضوع، وعليه فكل بناء معرفي هو نتيجة لهذه الجدلية القائمة بين الذات والموضوع ومعيار تقييمه متنوع، قد يكون الواقع وقد يكون الفكر النظري أو هما معا، وتنقسم المعرفة إلى علمية وغير علمية، فالأولى تخضع لبناء إستنباطي يحكمه الاتساق والإنسجام بين مقومات وقوانين نظريته، والثانية هي كل معرفة ناتجة عن التمثل المشترك، وتفتقد لخصوصية البناء المنظم ونموذجها السحر، الشعوذة...
تحديد مجال المفهوم:
تعتبر النظرية بناء فكريا استباطيا يحكمه الاتساق والإنسجام، يعتمده العالم الباحث للإجابة عن مجموعة من الطروحات والفرضيات التي تشكل موضوع اهتمامه، وتتصل النظرية أيضا بالممارسة والتطبيق وبالمجال العلمي بشكل عام، وفي كلتا الحالتين تأخذ النظرية معنى، إنتاج فكري تركيبي وصفي موجه للتطبيق والتأثير في الواقع، وبهذا فهي تحمل عدة أبعاد، بعد واقعي يهم الموضوع الذي تتولى وصفه، وتفسيره وبعد تقني يرتبط بمجموع الإجراءات والعمليات التي تحيط بإنتاجها، ثم بعد قيمي يتعلق بمدى صدقها وتماسكها. مقابل هذا التحديد للنظرية يمكن التساؤل ما التجربة؟
يشير لفظ التجربة، إلى مجالات عديدة ومتنوعة، فهي تشمل المعارف والخبرات التي يكونها الإنسان في علاقته المباشرة بالواقع، كما تعني اكتساب القدرة على الإتقان، أما في مجال المعرفة العلمية فتعتبر الوسيلة الأساسية التي يلجأ إليها العالم التجريبي لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.
من هذا المنطلق، يعتبر مفهوم النظرية والتجربة مفهوم معقد وإشكالي، فما دلالة كل من النظرية والتجربة؟

من الدلالة إلى الإشكالية:
يحمل مفهوم النظرية في التمثل المشترك معاني القول والحكم والرأي، والنظرية حسب هذا التمثل تكون إما سلبية أو إيجابية، سلبية إذا لم يسندها الفعل والعمل وإيجابية إذا تحولت إلى أداة للفعل والعمل وجلب المنافع، وبهذا يتبين أن التمثل المشترك ازدرى التنظير واحتقره، مما يبرز مدى قصوره ومحدودية أفقه. 
وبالانتقال إلى المجال اللغوي العربي نجد أن لفظ النظرية اشتق من كلمة النظر التي تفيذ المشاهدة الحسية العيانية، أما اصطلاحا وفي لسان العرب لإبن منظور تفيد النظرية معنى الترتيب والنظام؛ "ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى إستعلان ليس معلوم". بينما في اللسان الفرنسي نجد كلمة نظرية théorie اشتقت من العبارة الإغريقية théoria التي تعني النظر والمشاهدة الحسية، فضلا عن استخدام التأمل العقلي. وعلى المستوى الفلسفي اعتبر لالاند أن النظرية بمثابة "إنشاء تأملي للفكر،يربط نتائج بمبادئ"، ليستخلص من هذا التعريف أن النظرية عقلية، وبذلك فهي تتقابل مع الممارسة والتطبيق.
أما مفهوم التجربة فيحمل في التمثل المشترك معاني الإحتكاك والإرتباط بالواقع التي تسمح للفرد، باكتساب خبرة معينة في مجال معين، (تدريس، بناء......) أما في المجال العلمي فتعني القيام بخطوات منظمة من طرف العالم لإستنباط القوانين المتحكمة في الظاهرة المدروسة، وتعني عند كلود برنار؛ ملاحظة من الدرجة الثانية، أما عند لالاند فيفيد لفظ التجربة "بمعنى عيني وتقني أكثر؛ فعل الإختبار".
ومن هذه الدلالات المتباينة والمختلفة، يتبين إلى أي حد يعتبر مفهوم النظرية والتجربة معقدا وإشكاليا، وهذا ما يحفزنا على إثارة التساؤلات التالية:
هل هناك تداخل بين النظرية والتجربة؟ وما علاقة هذه الأخيرة بالتجربة؟ وما دور كل من العقل والنظرية في بلورة النظرية العملية؟ وماهي معايير صحة النظريات العلمية؟.
المحور الأول: التجربة والتجريب:.
لقد شكلت التجربة الخام والملاحظة العامية في تاريخ العلوم عائقا إبستيموجيا حال دون تقدم المعرفة العلمية، لكن وبفضل مجهودات مجموعة من العلماء الذين عملوا على بناء نظريات علمية متميزة عن بادئ الرأي والحس المشترك، الذي ينتج عن التجربة الحسية المباشرة، والخبرات الذاتية، أما النظريات العلمية فتقوم على التجريب العلمي، هذا الأخير حسب كويري عبارة عن مساءلة منهجية للطبيعة قائمة على لغة رياضية.
بالإضافة إلى هذا، يقترح كلود برنار جملة من الشروط التي ينبغي توفرها في العالم التجريبي، والتي يعتبرها ضرورية في بلوغ التجربة العلمية، وأكثر من هذا نجده يميز بين الملاحظ والمجرب، على المستويين النظري و العلمي، فعلى المستوى النظري؛ إن الملاحظ لايستدل أما المجرب فيستدل على الوقائع المكتسبة أما على المستوى العلمي لايمكن التفريق بينهما، لأن الباحث هو نفسه الملاحظ والمجرب.
فالنظرية إذن ليست شيئا آخر، عدا التجربة العلمية المراقبة من طرف التجربة غير أن التجريب
وحده أحيانا يبقى عاجزا عن إكتشاف الأسباب الظاهرة، لذلك يقترح روني طوم، إكمال الواقعي بالخيال كتجربة ذهنية، لايمكن لأي جهاز آلي أن يعوضها.
نستنتج مما تقدم، أن التجربة بمفهومها العلمي، لعبت دورا مهما في بناء المعرفة العلمية وفي الوقت ذاته، إحداث قطيعة إبستيمولوجية مع التجربة بمفهومها العامي، كما عملت على إثارة جملة من التساؤلات أهمها: ما هي الأسس التي تقوم عليها كل من العقلانية الكلاسيكية والمعاصرة؟.
المحور الثاني: العقلانية العلمية: 
إن الخوض في العقلانية العلمية يدفعنا بالضرورة إلى التمييز بين تصورين لهذه العقلانية، أحدهما يقوم على أسس عقلانية كلاسيكية تتميز بالثبات والإنغلاق والآخر يقوم على أسس عقلانية معاصرة، قوامها الإنفتاح والتغير كما يرى باشلار، ومنه نتساءل؛ هل العقلانية العلمية قيد وإنغلاق أم حرية وإنفتاح؟ وبتعبيرآخر، هل هي مضمون ومحتوى،أم نشاط وفعالية؟
إن إرتباط ميلاد العقل الحديث بالشك الديكارتي وبالنقد الكانطي، لم يمنع فلاسفة هذه المرحلة، أسوة باليونانيين، أن ينظروا إلى العقل نظرة مطلقة ثابتة، غير أن العقل حسب ج.ب فيرنان، يبقى في الأول والأخير عبارة عن ظاهرة بشرية خاضعة لشروط تاريخية تفرض عليه وبالضرورة، التقلب والتغير حسب هذه الشروط، وعليه فإن العقل محايث للتاريخ البشري في جميع مستوياته، وبالتالي لايمكن القول بوجود تصور مطلق للعقل، وفي نفس الطرح يرى محمد أركون أن العقل البشري سيرورة من التطورات، بدءا من العقل القروسطوي اللاهوتي الذي كان يغلب عليه طابع التفسير الديني، مرورا بالعقل الحديث الكلاسيكي، المرتكز على اليقينيات المطلقة، وصولا إلى العقل النسبي الذي يؤمن بالتقدم والتطور.
أما صاحب النظرية النسبية أ.إينشطاين فيؤكد على أهمية البناء الرياضي الخالص في إكتشاف القوانين التي تسمح بفهم الظواهر الطبيعية، فالمبدأ الخلاق حسب تعبيره يوجد في العقل الرياضي. 
بناء على هذا، فقد أصبح العقل العلمي المعاصر يتميز بالنشاط والفعالية حسب أولمو وباشلار، فهذا الأخير يعطي الأهمية للحوار بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية، فلم يعد بذلك العقل منعزلا في بناء مفاهيمه وطروحاته العلمية، بل لابد من يقين في وجود الواقع في قبضة العقل، ويقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظاتها. فهذا اليقين المزدوج أساسي لقيام التجربة.
من جهة أخرى، وجه بعض الإبستيمولويين المعاصرين البحث في منحى آخر، حيث فحص رايشنباخ علاقة العقلانية العلمية بالنزعة المثالية، فاستنتج أن كل معرفة تترفع وتتعالى عن الملاحظة والتجربة هي معرفة روحية تأملية، أقرب إلى التصوف منه إلى العلم، لأنها تتعالى عن أهم خاصية في العقلانية العلمية، ألا وهي التجربة. وفي إطار الحديث عن خصائص العقلانية التجريبية، يرى روبير بلانشي أن هذه العقلانية ليست لها نزعة إختبارية تعكس معطيات التجربة بشكل آلي ميكانيكي، كما أنها ليست منظومة من القواعد الثابتة.
إنطلاقا من هذا التعدد في المواقف نخلص إلى أن العقلانية المعاصرة المنفتحة ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة لسيرورة من التراكمات والتحولات التي عرفعها التاريخ البشري، مما يفتح المجال أمام طرح إشكالية صحة معايير النظريات العلمية.
المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية.
لقد أدى تعدد المناهج العلمية والمقاربات المتباينة للموضوع الواحد إلى تعدد معايير صحة النظريات العلمية وكذا تباين مواقف العلماء والابستمولوجيين، فما هي أهم هذه المعايير؟ وماهي أهم الإختلافات الموجودة بينها؟ 
يرى عالم المناظر الحسن بن الهيثم، أن للنقد وظيفة أساسية لبناء المعرفة العلمية، مؤكدا على أنه ينبغي على كل ناظر في كتب العلماء أن يموقع نفسه كخصم لكل ما ينظر فيه، فلا يتحامل عليه ولا يتسامح معه.
بالإضافة إلى هذا، يوضح دوهايم أن معيار صدق وصلاحية النظرية العلمية يتطلب وجود توافق بين الأحكام والقوانين التجريبية، إذ إن "الإتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة"، غير أن هذا التحقق التجريبي من وجهة نظر توييلي، لايعطي دلائل قاطعة، مؤكدا على ضرورة تنويع الاختبارات التجريبية، والمقارنة بينها، لأن تأكيدات التجربة تكون جزئية ومعرضة دائما للمراجعة، ومن ثم فالإختبارات المتعددة ضرورية لإخراج النظرية من عزلتها وربطها بنظريات أخرى.
غير أن التجربة بالمعنى الكلاسيكي، لم تعد تمثل منبع النظرية، ولم تعد قيمة النسق تستند على التطابق الحاصل بين معطيات التجربة و نتائج النظرية. فكيف يمكننا القول بعلمية النظرية الفيزيائية؟ 
جوابا على هذا السؤال يرى إينشتاين، أن البناء الرياضي الخاص هو الذي يمكننا من إكتشاف المفاهيم والقوانين، فالمبدأ الخلاق حسب هذا العالم، يوجد في الرياضيات، أما كارل بوبر فيرى أن معيار صحة النظريات العلمية، هو القابلية للتكذيب، هذه الأخيرة هي التي تميز بين النظرية التجريبية والنظرية اللاتجريبية، فما دمنا لا نستطيع وصف كيف يأتي التنفيذ لنظرية ما، فإنها تعد خارج مجال العلم التجريبي، لكنها تظل غير فارغة من المعنى أو كاذبة، لأن معيار القابلية للتكذيب يمكن أن نطلق عليه القابلية كإختبار آلة لتبيان العيب فيها، ومن ثم فالنظرية التي لا عيب فيها تبقى نظرية غير قابلة للاختبار.
هذه القابلية تمر بخطوات أساسية يحددها بوبر في ما يلي: 
1- إتساق النتائج وتماسكها.
2- صورنتها منطقيا ليتبين هل هي علمية أم تيولوجية.
3- مقارنة النظرية قيد البحث مع نظريات أخرى ومعرفة هل حققت الأولى تقدما بالمقارنة مع النظريات الأخرى.
4- القيام بتطبيقات تجريبية على بعض النتائج المستخلصة من تلك النظريات، هذا الإجراء الأخير هو إجراء إستنباطي.
نستخلص من هذه المواقف والأطروحات، أن أي نظرية علمية هي حوار دائم بين البناء الرياضي ومعطيات التجربة، لكن هذا الحوار لا يحسم في تركيب بشكل نهائي، فعلاقة النظرية بالتجربة علاقة متحركة متغيرة، والعلم المعاصر لا ينظر للعقل البشري باعتباره إناء أو وعاء يشتمل على مضامين أو أفكار أولية ( أرسطو، ديكارت،لايبنيتز) أو باعتباره مشكلا من مقولات محددة (كانط)، بل باعتباره نشاط وفعالية، ولعل هذا ما يجعل من الصعوبة - كما عبر باشلار- على أي إيبستيمولوجيا أن "تصف بنية نهائية للفكر العلمي..." . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق